ملتقي اهل اللغه (صفحة 5949)

الضاد وهُوية الوطن

ـ[أحمد محمد شريف]ــــــــ[04 - 05 - 2011, 09:34 م]ـ

الضاد*1 وهُوية الوطن

يحتفل*2 العالم يوم الحادي والعشرين من شهر فبراير كل عام باليوم الدولي للغة الأم، وهو اليوم الذي يَرمز لفتح الشرطة النار في مدينة دكا عاصمة بنجلاديش حاليًا على تلاميذ خرجوا متظاهرين للمطالبة بالاعتراف بلغتهم الأم "البنغالية" كواحدة من لغتي البلاد الرسمية لما كان يعرف حينئذ بباكستان.

شخصيًا هزني هذا الأمر وسلبَ تفكيري لدقائق استعدت فيها بعض المشاهد التي حفرها التاريخ في صفحات عروبتنا، تذكرت كيف عمد الاستعمار قديمًا طمس هُوية أوطاننا بمحو كل ملامح اللغة العربية واستبدالها بلغة المحتل!، فحاول ونجح في دول المغرب العربي بشكلٍ كبير مازالت تقرع أصداؤه أيامنا هذه، وأضحت الفرنسية لغة أساسية في ولاياتٍ كثيرة هناك، وصار الولاء لكل ما هو فرنسي من شرائح كثيرة هناك أمرًا جَليًا. ولقد حاول المحتل الإنجليزي أن يَسلك ذات السلوك هنا في مصر لكن لم يستطع أن يخطو كثيرًا، ربما لأن غالبية الشعب المصري كانت تمتهن الزراعة وعاشت غالبية جموعه ترزح تحت نير الأمية في القرى بعيدًا عن مرصد المحتل اليومي، فلم يتقابل هذا مع خطط المحتل التي تحتاج لبديهة من المتلقي لا تتوفر غالبًا في الأمي، وكذا فقد كان لبعض الزعماء المخلصين للوطن دورٌ في الحفاظ على اللغة، فبعد أن تولى سعد زغلول وزارة المعارف قام بإلغاء المقررات الإنجليزية في مراحل التعليم الأولى واستبدل بها مقرراتٍ عربية، والسؤال: لماذا اللغة؟

وربما تستقبلون تمهيدًا لإجابة جلية من خلال الفقرة الأولى، وسأزيد بالتفصيل:

في كل التاريخ البشري حينما أراد المحتل أن يُعضد من أركان دولته في مستعمراته كان يعمل على طمس اللغة الأم للرقعة المحتَلة من قِبله واستبدل لغته بها لكي يتيسر عليه نشر فكره ومذهبه ليذيب من لحمة الولاء للوطن الأم لتنصهر مع حضارته وليتحول الولاء له تدريجيًا، ومن شأن هذا أن يوفر أقصر الطرق لحماية أركان دولته المستعمِرة بتجنبيها المقاومة، إذ لا ضرورة لوجودها فيمن لا يتجذر فيه الولاء لهُوية مَنبتها.

ولأن اللغة هي التي تحفظ للشعوب حضارتها، وتكفل ضمان انتقال الإرث التاريخي للأجيال اللاحقة بتوثيقه من خلالها، وهو الدور الذي اضطلعت به اللغة الهيروغليفية مع الحضارة المصرية القديمة فأضافت للبنيان الباقي شاهدًا قيمًا، أعود لأقول: لأن اللغة تضطلع بالدور السابق ذكره فقد تكالبت الشعوب على حماية لغتها من الطمس والتحريف لتكون هي المعبرة عن ماضيها وحاضرها في حاضرها ومستقبلها.

الآن وبعد جلاء المستعمِر عن بلادنا لم تنقشع عنا غُمة الاستعمار اللغوي، إذ خرج علينا ذاك المستعمِر صاحب الأبعاد الشكلية المتجذرة أصولها للوطن وتخضع أبعاده الموضوعية للمحتل حتى وإن كان لا يدري أو يقصد.

الحديث هنا عن المواطن الذي ينتمي للوطن ولغته الأم ويحارب لغته الأم، ووسائل وصور الحرب كثيرة ومنها:

تغليب اللهجة العامية كلسانٍ للتحدث والكتابة حتى لو كانت مشتقة حروفها وأغلب مفرداتها من اللغة الفصيحة، لأنه لا قواعد ولا نظام تسير عليه اللهجات سوى الهوى الشخصي وهو ما يضعف اللغة الأم بنسيانها مع اعتياد اللهجة العامية.

هذا التغليب أصبح في كل مناحي العمل والتواصل فحتى الإعلام المرئي والمقروء على السواء حذا نفس النهج وأضحى يقدم محتواه كبضاعة تُقَدم كما يهواها الشاري، والذي بدوره استساغ السليقة العامية الدارجة العامية لعدم التزامها بالقواعد والنظم.

ومن هول المأساة أن رأينا من ينادي الآن باعتماد اللهجة العامية كلغة رسمية للبلاد، بل سعى بعضهم مُدعمًا برأس المال لإنشاء قنواتٍ تلفزيونية جُل أدوراها لا تتم إلا عبر اللهجة العامية، رافضين في ذلك أي لسان يتحدث بالعربية الفصيحة عبر شاشتهم مُستندين -بباطلٍ- إلى أنها لغة الوطن، وأسموها في الموسوعات المعرفية*3 على شبكة الإنترنت باللغة المصرية.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015