ملتقي اهل اللغه (صفحة 5916)

أقول: ليت الشّأن انحصر في عامّة النّاس وأشباههم من أنصاف المثقّفين، إذًا لهان الأمر، ولكن قد تعدّى شرُّه، وتطاير شررُه ليصيب المثقّفين، وطلبة العلم، بل وبعض الخاصّة من أعلام العصر، ومن يُشار إليهم بالبنان. ولا عجب في ذلك فقد حصل هذا من قديم، ولدرإ شرّه صنّف له الحريري القاسم بن عليّ كتابه (دُرَّة الغوّاص في أوهام الخواص).

قال ابن جِنِّي في الخصائص (2/ 9): (واستمرَّ فساد هذا الشّأن مشهورا ظاهرا، فينبغي أن يُستوحَشَ من الأخذ عن كلّ أحد إلاّ أن تقوى لغتُه وتَشِيع فصاحتُه. وقد قال الفّراء في بعض كلامه: إلاّ أن تسمع شيئا من بدويّ فصيح فتقولُه).

وفي صبح الأعشى قال القلقشندي (1/ 208): (قال أحمد بن يحيى: كان هذا مقدار أهل العلم، وبحسبه كانت الرّغبة في طلبه، والحذر من الزّلل، قال صاحب الرّيحان والرّيعان: فكيف لو أبصر بعض كتّاب زماننا هذا. قلت: قد قال ذلك في زمانه هو، وفي النّاس بعض الرَّمَق، والعلم ظاهر، وأهله مكرمون، وإلاّ فلو عمّر إلى زماننا نحن لقال:" تلك أمّة قد خلت ").

قلت: فكيف لو امتدّت أنفاسُه، وانفتحت عيناه عن زماننا، إذا لما قال: " تلك أمّة قد خلت ".

(واعلم أنّ اللَّحْن قد فشا في النّاس، والألسنة قد تغيّرت حتّى صار التّكلُّم بالإعراب عَيْبًا، والنُّطق بالكلام الفصيح عِيًّا).

حقًّا، إنّها آفة العصر، فُشُوّ اللّحن، وتمادى الأمر من غير نكير حين ظهر من المذاهب الأدبيّة الحديثة الّتي تدعو إلى التّحرُّر من قيود اللّغة - زعموا -،لِيُترَكَ اللّسانُ يجري على سجيّته في التّعبير عمّا يختلج في النّفس، ويضمره القلب من المعاني، فالعبرة عندهم بالغاية الّتي لأجلها كان الكلام، وهي إيصال المعنى إلى المخاطَب، ولا عبرة بعد ذلك بالوسيلة إلاّ إذا كانت مؤدّيّة إلى الغاية الّتي لأجلها سيق الخطاب، والكتاب.

(قلت: والّذي يقتضيه حال الزّمان، والجري على منهاج النّاس أن يُحافَظَ على الإعراب في القرآن الكريم، والأحاديث النّبويّة، وفي الشّعر، والكلام المسجوع، وما يُدَوَّن من الكلام، ويُكتَبُ من المراسلات ونحوها، ويُغتَفَرُ اللّحنُ في الكلام الشّائع بين النّاس، الدّائر على ألسنتهم ممّا يَتداولونَهُ بينهم، ويَتحاورون به في مخاطَباتِهم، وعلى ذلك جرت سنّة النّاس في الكلام مذ فسدتِ الألسنة، وتغيّرت اللُّغة).

ولا بأس بتذكير مَن غفل عن معرفة ما يُعتبر من لغة العرب؛ كيما نحفظ للعربيّة رونقها، وندفع عنها ما من شأنه أن يُشوِّه جمالها، ويسلب عنها أصالتها. فيقال: إنّ اللّغة العربية لا تعتبر إلاّ ب:

1 - الرّواية عن فصحاء العرب في زمن الاعتبار، أعني: قبل فُشُوِّ اللّحن، ففي البوادي كان ذلك في آخر المئة الرّابعة (نهاية القرن الرّابع من الهجرة)،وفي الحواضر كان في آخر المئة الثانية (نهاية القرن الثاني من الهجرة).

2 - بالنّقل عن العلماء العدول من حفظة اللّغة، وروّاة الأشعار.

وعليه فاللّغة الفصيحة يعتبر فيها صحّة الوَضْع، أو القياس على النّظائر ممّا ثبت بالوَضْع عن فصحاء العرب، وعدول نقلة اللّغة. وقد قيل قديما: إذا رويت فالصِّحَّة، وإذا نقلت فالأمانة، قال الشّاعر:

ونُصّ الحديث إلى أهله * فإنّ الأمانة في نصِّه

إنّني - وكلّ غيور - أبغي للغتنا العربية أن تستعيد مكانتها في أمّتنا أوّلا، وبين سائر أمم الأرض ثانيا؛ لتتربّع على عرش الشّموخ والعِزّة، كما كانت في سالف الزّمان، وغابر الأيّام، فلا تدور دواليب العلوم إلاّ بمفرداتها، ولا يجري على النّاس جميعا إلاّ ضادُها.

وأبغي لها النّقاء والصّفاء والجلاء لأنّها - لله درُّها - مرآة الوحي المقدّس، إذ لا سبيل إليه إلاّ من خلالها؛ فهي بوّابة الشّريعة، فمن رام الولوج من غيرها من لغات الأرض ضلّ سبيله، وأخطأ عن قصد طريقه. قال في صبح الأعشى (1/ 205): (قال صاحب الرّيحان والرّيعان: ولم يزل الخلفاء الرّاشدون بعد النّبيّ [صلّى الله عليه وسلّم] يحثّون على تعلُّم العربيّة وحفظها والرِّعاية لمعانيها؛ إذ هي من الدّين بالمكان المعلوم، والمحلِّ المخصوص).

وأبغي (أن نطهِّر لغتنا العربيّة، لغة القرآن الكريم، والحديث الشّريف، ولسان السّلف الصّالح، من نجس الأخطاء، لا أقول اللّغويّة - فاللّغة منها براء، ولا يجب أن ننسب هذه الأخطاء إليها؛ وإنّما يجب أن تُنسَبَ إلى هؤلاء الجاهلين، فنقول: أخطاء الجاهلين أو جاهلي اللّغة ...).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015