ـ[محمد تبركان]ــــــــ[02 - 05 - 2012, 05:44 م]ـ
العدوان على بنت عدنان
الحمد لله تعالى إلاه الأوّلين والآخرين، وربّ كلّ شيء ومليكه في السّالفين والخالفين، والصّلاة والسّلام على سيّد العرب والعجم كلّهم أجمعين، أفصح مَن نطق بالضّاد، وأبلغ مَن جرى لسانه بالعربيّة من وُلْد يعرب بن قحطان، صلّى الله عليه
ما هبّت النّسائم وما * ناحت على الأيك الحمائم
وعلى آله الطّيبين الأخيار، وصحابته الكرام الأبرار، وعلى التّابعين لهم بإحسان ما جنّ ليلٌ، وأشرقت شمس بضياء النّهار.
وبعدُ، فإنّ اللّغة العربيّة خير ما جهدت النّفوس لتحصيلها، والظفر بها، بعد كتاب الله تعالى، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلّم. ولقد درج العلماء في القديم والحديث على الإشادة بها في الدّفاتر والمحافل، وفي حلقات الدّروس، وأعواد المنابر، وصنّفوا في ذلك ما لا يكاد يُحصى من الأسفار.
ولا غرو في ذلك فهي لسان الوحي المقدّس، اصطفاها المولى جلّ وعلا لأفضل رسله، وحلّى بها خاتمة رسالاته، قال عزَّ مِن قائل: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)،وقال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)،وقال: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
ومع ذلك فها هو سيل العُجْمَة قد فشا في النّاس فُشُوَّ النّار في الهشيم، وداء اللَّحْن واللُّكْنة قد سرى في الأمّة سَرَيان الدَّم في العروق؛ حتّى عقد ألسن خاصّة النّاس بَلْه عامّتهم، واستوطن حواضرهم فكيف ببواديهم؛ وما ذلك إلاّ نتيجة الزّهد في تعلُّم العربيّة لغة وأدبا، واللهث وراء لغة الأعاجم من غير تبصُّر، ولا تفكُّر، فكأنِّي بهم قد تواصَوْا بمنابذة سَنن العرب، ومجاراة رطانه العجم.
نعم، لقد تهاون الكثيرون في تعلُّمها، بل تعلُّم الحدّ الأدنى من رسومها وقواعدها، وآخرون لا يبالون بما يقعون فيه من أخطاء وأغلاط، ويستروحون إلى دعوى الاهتمام بالمعنى من حيث تبليغُه، فإن وصل إلى المتلقِّي كان ذلك هو الغرض الذي سيق لأجله الكلام؛ ومن ثمَّ استجازوا لأنفسهم، وغيرهم التّساهل - إلى حدّ التّفريط - بشأن اللّغة العربية من حيث التّحدُّثُ بها؛ حتّى أوصلهم ذلك إلى تبنِّي اللهجة العامِّية كوسيلة للتّواصل؛ ثمّ سرى ذلك بين الطّلبة والأساتذة على مقاعد الدّراسة، وفي مدرّجات الجامعة، وبلغ السيل الزُّبى حين استشرى هذا الدّاء إلى عقول بعض المثقّفين فانعكس جليًّا في كتاباتهم على صفحات الجرائد، وقصص الأطفال والرّوايات وغيرها ... ،هذه الرّوايات الّتي أُثقلت بها رفوف المكتبات من غير أن تعرف طريقها إلى القرّاء لأسباب عدّة من أهمّها أنّها كُتبت بلغة فجّة، لم يستسغها كلّ مَن يَمُتُّ إلى العربية بصِلة.
فإذا كان المعنى المراد تبليغه قد وصل إلى المتلقِّي عن طريق جارحة اللّسان أو ما يخطُّه القلم من البيان والهذيان؛ لم يعبؤوا بعده كيف كان ذلك الاتّصال، أبلغة الوحيين تمّ، أم بلغة السَّفِلَة والرَّعاع حصل.
إنّهم يعتبرون العربية وسيلة كسائر وسائل الخطاب، ويُسوُّون بينها وبين سائر لهجات النّاس التي وُلدت وترعرعت في الأزقّة والطرقات!،وهم لما يترتّب عن هذا المذهب في دَرْك ما يُحدق بهم وبهُوِيَّتهم وثقافتم ودينهم من أخطار وويلات في غفلة ساهون!.
فمن هذه الويلات، وتلك الأخطار أنّنا جميعا أصبحنا نرى ونسمع بخطباء على أعواد المنابر نصبوا أنفسهم لوعظ النّاس وإرشادهم قد درجوا على اللّحن، حتّى ألفت الأسماع أغلاطهم، وزلاّت ألسنتهم، واستفحل الأمر، وعظم الخطب حين أضحى الغلط ديدنهم، والخطأ شِعارهم الّذي يُعرفون به، وهم مع ذلك لا تكاد ترى الواحد منهم يسعى لإصلاح ما انخرق من لسانه كما يسعى لرتق لباسه، وطلب معاشه؟!.
فحريٌّ بك - أيُّها اللّبيب - أن تعرف للعربيّة خطرها لتقف بعدُ على شرفها وعظيم قدرها؛ وهذا باعتبار تعلُّقها بأشرف موجود وهو شريعة ربّ العالمين، الّتي نزل بها الأمين جبريل - عليه السّلام - على سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم بلسان عربيّ مبين؛ فالجهل بهذا اللّسان ذريعة للجهل بهذه الشّريعة، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى.
¥