ومن نازع في شيء من ماهيته وعظم مكانتة ,فهو أحمق ساقه حَمَقُهُ وجهله إلي ذلك فضلاً عن أن يكون من أهل العلم المحققين.
فلا عالم بالعلوم ليس له دراية بعلوم العربية والإلمام بشيء منها وكم من متفقهه عزف الناس عن الأخذ عنه بسبب لَكنِهِ وَلَحِنهِ في الكلام
وكما قال القائل:
النَّحوُ يَبسُطُ مِن لِسَانِ الأَلكَُنِ ...... والمرؤ تُكرِمهُ إِذا لا يَلحَنِ
ولاأريد أن أطنب الكلام في هذا ففيه من المخلصين وأهل الفضل من أفاضوا علينا بكلامهم , ولكن القضية التي لا يمكن ضبطها عند الكثير من المعلمين والمُفهِمِين تكمن في طريقة تعليمهم وتلقينهم ويمكن تلخيص قضيتهم في عدة أمثلة.
الأول:
"من يجيد شرح المتون واستخراج مكنوناتها إلا أنه يعطي كل ما عنده للمتعلم دون مراعاة المُبتَدِأ ,والمُتَوَسِّط, والمُنتَىهِى بحجة أن العلم لا يُبَسَّطُ ولا يُسَهَّلُ لكي لا يضيع.
فَيَغمِضُ العلمُ ويصعب على طلابه ويعزفون عنه وسيأتي ايضاح هذا في كلام ابن خلدون القادم -ان شاء الله تعالى-.
الثاني:
"من لا يجيد شرح المتون فيقبل علي تدريسها فَيُضَيِّعُ حلاوتها وطلاوتها مقسما لها تارة وملخصاً لها تارة أخري والمتون لا تُعَامل بمثل هذه الطريقة فيضيع ما فيها من خير, وليس يقوم علي تدريسها أىُّ أحد أو يتلقنها كل احد.
الثالث:
"وهو من لا يجيد شرح هذا ولا ذاك فهو يقرأ الكتب أمام طلابه سرداً متعرضاً لبعض مسائلها بالإيضاح ,فمثل هذا يصطدم بعلوم العربية فلا ينتفع الناس منه بشيء لمَا تحتاج هذه العلوم من تمرين للسان وتعويد له علي ضبط حركته واستقصاء مسائله بالشرح والتوضيح.
وعلى كل حال لابد من التحري والتدفيق في هذا الأمر وسيأتي بيان ذلك فيما يتعلق بالطالب والمستفهم -ان شاء الله تعالى-.
ولكن ثمة نصائح مهمة للمعلم في تدريس العلوم علي وجه العموم وعلوم العربية علي وجه الخصوص إضافة إلى ما قاله بن خلدون آنفاً عن طرق تعليم علوم الآلات نتركه يسرد لنا ما عنده فاقرأه وعِه ولا تَمِلّ -بارك الله فيك- يقول -رحمه الله-:" اعلم ان تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان علي التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا , يلقي عليه مسائل كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويُقَرّبُ له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول مايَرِدُ عليه حتى ينتهي الى آخر الفن , وعند ذلك يحصل له ملكةٌ في ذلك العلم إلا إنها جزئية وضعيفة وغايتها أنها هيَّأَتهُ لفهم الفن وتحصيل مسائله ,ثم يرجع به الى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ,ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه ,إلى ان ينتهي به الى آخر الفن فتجود ملكته ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضّحَه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.هذا هو وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت يحصل في ثلاثة تكرارات وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه.
وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي ادركنا يجهلون طرق التعليم وافادته ويُحَضِّرُون للمتعلم في أوّل تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه, ويكلفونهم وَعيَ ذلك وتحصيله ,ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها , وقبل أن يستعد لفهمها , فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمة تنشأ تدريجا ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلي سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية ثم لا يزال الإستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتي تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبه العلم في نفسه ,فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادي في هجرانه وإنما أتي ذلك من سوء التعليم.
¥