(من أحَبَّ أن يكونَ كاتبًا، أو كان عندَهُ طَبْعٌ مُجِيب، فَعَلَيْهِ بحفظِ الدَوَاوينِ ذَواتِ العَدَدِ، ولا يَقنَع بالقَليْلِ من ذلك، ثم يأخُذ في نَثْرِ الشِّعرِ من محفُوظَاتِهِ، وطريقُهُ أن يَبْتَدِئَ فَيَأخُذ قَصِيْدًا من القَصائِدِ، فيَنْثُرهُ بَيْتًا بيتًا على التوالي، ولا يستَنْكِف في الابتداء أن يَنْثُرَ الشِّعر بألفَاظِهِ أو بأكْثَرِهَا، فإنه لا يستطِيعُ إلا ذلك، وإذا مَرِنَتْ نَفْسُهُ وتَدَرَّبَ خاطِرُهُ ارتفَعَ عن هذه الدرجَةِ، وصارَ يأخُذُ المعنى ويَكْسُوهُ عِبَارَةً من عِنْدِهِ، ثم يَرتَفِعُ عن ذلك حتى يكسُوهُ ضُروبًا من العِبَاراتِ المختَلِفَةِ، وحينئذٍ يحصُلُ لخَاطِرِهِ بِمُبَاشَرَةِ المَعاني لقاحٌ، فيستَنْتِجُ منها مَعَانِيَ غيرَ تلك المعانِي، وسبيلُه أن يُكثِرَ الإدْمَانَ لَيْلاً ونَهارًا، ولا يَزَالُ على ذلك مدَّةً طويْلةً، حتى يصيرَ له مَلَكة، فإذا كَتَبَ كِتابًا أو خَطَب خُطبَةً تدفَّقَت المعَاني في أثناءِ كَلامِهِ، وجاءَت ألفاظُهُ مَعْسُولَةٌ لا مَغْسُولَة، وكان عليها حِدَّةٌ حتى تكاد ترقُصُ رَقصًا، وهذا شيءٌ خَبَرتُهُ بالتَّجْرِبَةِ، ولا يُنَبِئُك مِثْلُ خَبِيْر)
ابن الأثير
،،،،،،،،،
حل الأبيات الشعرية
ينقسم إلى ثلاثة أقسام
القسم الأول: أن يأخذ الناثر بيتاً من الشعر فينثره بلفظه من غير زيادة، وهذا عيب فاحش، ومثاله كمن أخذ عِقداً قد أتقن نظمه وأحسن تأليفه فأوهاه وبدده، مثاله قول بعضهم في:
وألد ذي حنقٍ علي كأنما ... تغلي عداوة صدره في مرجل
أرجيته عني فأبصر قصده ... وكويته فوق النواظر من عل
- (فكم لَقِي ألدَّ ذِي حنَقٍ كأنَّه ينْظُر إلى الكَواكِبِ من عَل، وتغلِي عداوة صدرِه في مِرجل، فكوَاهُ فوق ناظِريهِ، وأكبَّه لفَمِهِ ويَديْهِ) فلم يزد هذا الناثر على أن أزال رونق الوزن وطلاوة النظم لا غير.
- ومن هذا القسم ضرب محمود لا عيب فيه، وهو أن يكون البيت من الشعر قد تضمن شيئاً لا يمكن تغيير لفظه، فحينئذ يُعذر ناثِره إذا أتى بذلِك اللفظ كالأعلام والأمثال السائرة.
القسم الثاني: وهو وسطٌ بين الأول والثّالث في المَرتبة؛ وهو أن ينثُر المعنى المنظوم ببعضِ ألفاظِهِ، ويعبّرَ عن البعْض بألفاظ أُخَر، وهناك تظهر الصنعة في المُماثلة والمُشَابَهَة ومُؤَاخَاةِ الألفَاظِ البَاقِيَةِ بالألفَاظِ المُرتَجَلَة؛ فإنَّه إذا أَخَذ لفْظًا لشَاعرٍ مُجِيدٍ قد نَقَّحَه وصَحَّحَه، فَقَرَنَهُ بِما لا يُلائمُهُ كانَ كمَن جَمَع بين لُؤلؤةٍ وحَصَاة؛ ولا خَفَاء بِما في ذلك من الانْتِصَابِ للقَدحِ، والاسْتِهْدَافِ للطَّعْنِ.
والطريق المسلوكُ إلى هذا القسم: أن تأخُذَ بعضَ بيتٍ من الأبياتِ الشّعريةِ هو أحسنُ ما فيه ثمّ تُمَاثِلُهُ.
مثل قوله:
حذاءَ تملأ كل أذنٍ حكمةً ... وبلاغةً وتدر كل وريد
فقوله " تملأ كل أذن حكمة " من الكلامِ الحَسَنِ، وهو أحْسَنُ ما في البيت، فإذا أردتَ أن تَنْثُرَ هذا المعنى فلا بُدّ من استِعْمَال لفْظِهِ بعَيْنِه، لأنَّه في الغَايَةِ القُصْوَى من الفصاحةِ والبلاغةِ، فعليك حينئذٍ أن تؤاخِيْهِ بمثله، وهذا عَسِرٌ جِدًا وهو عندي أصعبُ منالاً من ناثِرِ الشِّعْرِ بِغَيْرِ لفظِهِ، لأنَّه مَسْلَكٌ ضيِّق، لما فيه من التَّعَرُّضِ لمُمَاثَلَةِ مَا هو في غاية الحُسن والجودة، وأمَّا نثر الشعر بغير لفْظِه فذلك يتصرف فيه نَاثِرُهُ على حسب ما يراه، ولا يكون فيه بمثالٍ يَضْطَرُّ إلى مؤاخَاتِهِ.
فيقال في حل البيت: " وكلامي قد عرف بين الناس واشتهر، وفاق مسير الشمس والقمر، وإذا عرف الكلام صارت المعرفة له علامة، وأمن من سرقته إذ لو سرق لدلت عليه الوسامة، ومن خصائص صفاته أنه يملأ كل أذن حكمة، ويجعل فصاحة كل لسان عجمة، وإذا جرت نفثاته في الأفهام قالت: أهذه بنت فكرة أم بنت كرمة."
فانظر كيف الفعل في هذا الموضع فإنه لما أُخِذَت تلك الكلمات من البيت الشعري التُزِم بأن تُؤَاخى بما هُو مِثْلُهَا أو أَحْسَنُ مِنْهَا، فجيء بهذا الفَصْل كما تَرَاه، وكذلك ينبغي أن يُفعَل فيما هذا سبيلُه.
القسم الثالث: وهو أعلى من القِسْمَين الأولين، هو أن يُؤخَذ المَعنى فيُصاغُ بألفاظٍ غيرِ ألفَاظِهِ، وثَمَّ يَتَبَيَّنُ حذقُ الصَّائِغِ في صياغَتِهِ، ويُعْلَمُ مِقْدَارُ تَصَرُّفِهِ في صِنَاعَتِهِ؛ فإن اسْتَطَاعَ الزِّيَادَةَ على المعنى فتلك الدرجة العالِيَةُ، وإلا أحسَن التصرُّفَ، وأتقَنَ التأليفَ، ليكونَ أولى بذلك المعنى من صَاحِبِهِ الأوّل.
واعلم أن من أبيات الشعر ما يتسع المجال لناثره، فيورده بضروب من العبارات، ومن الأبيات ما يضيق فيه المجال حتى يكاد الماهر في هذه الصناعة ألا يخرج عن ذلك اللفظ، وإنما يكون هذا لعدم النظير.
ابن الأثير
،،، روابط مفيدة:
أنّ حل الشعر هي طريقة الأوائل في تعلمهم الإنشاء. (http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=3075)
¥