ـ[عائشة]ــــــــ[15 - 10 - 2010, 02:26 م]ـ
(5)
وإن حَاوَلْتَ صَنْعَةَ رِسالةٍ، أو إنشاءَ كتابٍ؛ فَزِنِ اللَّفظةَ قَبْلَ أن تُخْرِجَهَا بميزانِ التَّصريفِ إذا عَرَضَتْ، وعايِرِ الكَلِمةَ بمِعْيارِهِ إذا سَنَحَتْ، فرُبَّما مَرَّ بِكَ مَوْضِعٌ يكونُ مخرجُ الكلامِ إذا كَتَبْتَ: «أنا فاعِلٌ» أحسنَ مِنْ أَن تَكْتُبَ: «أنا أفعلُ»، وموضعٌ آخَرُ يكونُ فيه «اسْتَفْعَلْتُ» أحلى من «فَعَلْتُ».
فأدِرِ الألفاظَ علَى أعكانِها، واعرِضْها علَى مَعانِيها، وقَلِّبْها علَى جميعِ وجوهِها، فأيّ لَفْظةٍ رأيتَها في المكانِ الَّذي ندَبْتَها إليهِ؛ فانزِعْها إلى المكانِ الَّذي أوردتَّها عليه، وأوقِعْها فيه، ولا تجعلِ اللَّفظةَ قَلِقةً في مَوْضِعِها، نافرةً عَن مكانِها؛ فإنَّكَ متَى فَعَلْتَ؛ هجَّنْتَ المَوْضِعَ الَّذي حاوَلْتَ تَحسينَهُ، وأفسدتَّ المكانَ الَّذي أردتَّ إصلاحَهُ؛ فإنَّ وَضْعَ الألفاظِ في غيرِ أماكنِها، وقصدَكَ بِها إلى غيرِ نِصابِها؛ إِنَّما هُوَ كتَرْقيعِ الثَّوْبِ الَّذي إذا لَمْ تَتَشابَهْ رِقاعُهُ، ولَمْ تَتقارَبْ أجْزاؤُهُ؛ خَرَجَ مِنْ حَدِّ الجِدَّةِ، وتغيَّر حُسْنُهُ؛ كما قالَ الشَّاعِرُ:
إنَّ الجَديدَ إذا ما زِيدَ في خَلَقٍ ........ يُبِينُ للنَّاسِ أنَّ الثَّوبَ مَرْقُوعُ
ـ[عائشة]ــــــــ[16 - 10 - 2010, 02:20 م]ـ
(6)
وارتَصِدْ لكتابِكَ فراغَ قلبِكَ، وساعةَ نشاطِكَ، فتجدَ ما يَمتنع عليكَ بالكدِّ والتكلُّف؛ لأنَّ سماحةَ النَّفس بمكنونِها، وجودَ الأذهانِ بمخزونِها؛ إنَّما هو مع الشهوةِ المفرطةِ في الشِّعر، والمحبَّةِ الغالبة فيه، أو الغَضَبِ الباعثِ منه ذلك. قيلَ لبعضهم: لِمَ لا تقول الشِّعْرَ؟ قال: كيفَ أقوله، وأنا لا أغضبُ، ولا أطربُ! وهذا كُلُّه إن جَرَيْتَ مِنَ البلاغةِ على عِرْقٍ، وظهَرْتَ مِنها على حَظٍّ. فأمَّا إن كانَتْ غيرَ مُناسِبةٍ لطبعِكَ، ولا واقعة شهوتُك عليها؛ فلا تُنضِ مَطيَّتَكَ في التماسِها، ولا تُتْعِب بدنَك في ابتغائِها، واصرفْ عِنانَك عنها، ولا تطمَعْ فيها باستعارتِكَ ألفاظَ النَّاسِ وكلامَهم؛ فإنَّ ذلك غيرُ مُثْمرٍ لك، ولا مُجْدٍ عليكَ. ومَن كانَ مرجعُه فيها إلى اغتصابِ ألفاظِ مَن تقدَّمَهُ، والاستضاءةِ بكوكبِ مَن سَبَقَهُ، وسَحْبِ ذَيْلِ حُلَّةِ غَيْرِهِ، ولَمْ يَكن معهُ أداةٌ تُوَلِّدُ لَهُ مِن بَناتِ قَلْبِهِ، ونتائجِ ذِهْنِه الكلامَ الحُرَّ، والمَعْنَى الجَزْلَ= لَمْ يَكن من الصِّناعةِ في عِيرٍ ولا نَفِيرٍ. علَى أنَّ كلامَ العُظَماءِ المطبوعين، ودَرْسَ رسائلِ المُتقدِّمين علَى كُلِّ حالٍ= مِمَّا يَفْتُقُ اللِّسانَ، ويُوسِّعُ المنطقَ، ويَشْحَذُ الطَّبع، ويستثيرُ كوامِنَه، إن كانَتْ فيه سَجيَّةٌ.
قال العتَّابيُّ: «ما رأينا -في ما تصرَّفْنا فيه مِن فُنونِ العِلْمِ، وجَرَيْنا فيه من صُنوفِ الآدابِ- شيئًا أصعبَ مَرامًا، ولا أوعَرَ مَسْلكًا، ولا أدلَّ علَى نَقْصِ الرِّجالِ ورَجاحتِهم، وأصالةِ الرَّأي، وحُسن التَّمييز منه، واختياره= مِنَ الصِّناعة التي خطبتها، والمعنَى الذي طلبته». ولَيْس شيءٌ أصعبَ من اختيارِ الألفاظِ، وقصدك بها إلى موضعِها؛ لأنَّ اللَّفظةَ تكون أُخْتَ اللَّفظة، وقَسيمتَها في الفصاحةِ والحُسن، ولا تحسُن في مكانِ غَيْرِها. وبتمييزِ هذه المعاني، ومُناسبة طبائعِ جَهابِذتِها، ومُشاكَلة أرواحِهم= جَعَلوا الكِتابةَ نسبًا وقرابةً، وأوجَبوا علَى أهلِها حِفْظَها.
ـ[عائشة]ــــــــ[18 - 10 - 2010, 08:13 ص]ـ
(7)
فَإِن مُنِيتَ بِحُبِّ الكِتابةِ وصناعتِها، والبلاغةِ وتأليفِها، وجاشَ صَدْرُكَ بشِعْرٍ معقودٍ، أَوْ دَعَتْكَ نَفْسُكَ إلى تأليفِ الكلامِ المنثورِ، وتهَيَّأَ لكَ نَظْمٌ هو عندكَ مُعتَدِلٌ، وكلامٌ لديكَ مُتَّسقٌ؛ فلا تَدْعُوَنَّكَ الثِّقةُ بنفسِكَ، والعُجْبُ بتأليفِكَ؛ أن تهجمَ به علَى أهلِ الصِّناعةِ؛ فإنَّكَ تنظُرُ إلى تأليفكَ بعَيْنِ الوالدِ لوَلَدِهِ، والعاشقِ إلى عَشيقِه؛ كما قالَ حَبيبٌ:
ويُسيءُ بالإحسانِ ظَنًّا لا كَمَا ........ هُوَ بابْنِهِ وبشِعْرِهِ مَفْتُونُ
ولكنِ اعْرِضْهُ علَى البُلغاءِ والشُّعراءِ والخُطباءِ ممزوجًا بغيرِه، فإنْ أصْغَوْا إليه، وأَذِنوا له، وشَخَصُوا بالأبصارِ، واستَعادُوه، وطلبوه منكَ، وامتزج؛ فاكشفْ من تلك الرِّسالة والخُطبةِ والشِّعر اسمَه، وانسبْهُ إلى نفسِكَ. وإن رأيتَ عنه العيونَ مُنصرِفةً، والقُلوبَ عنه ذاهبةً؛ فاستدلَّ به علَى تخلُّفكَ عن الصِّناعةِ، وتقاصُركَ عنها، واسترِبْ رأيَكَ عند رأيِ غيرِكَ مِنْ أهلِ الأدبِ والبلاغةِ.
ـ[أبو العباس]ــــــــ[18 - 10 - 2010, 10:43 م]ـ
قوله هذا قريب من قول الجاحظ (ت255)
(فإذا أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتُنسَبَ إلى هذا الأدب، فقرضتَ قصيدةً، أو حبّرت خطبةً، أو ألفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتُك بنفسك، أويدعوك عجبُك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتدعيه، ولكن اعرضه على العلماء في عُرض رسائل أو أشعارٍ أو خطب؛ فإن رأيت الأسماع تُصغي له، والعيونَ تَحْدِج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه، فانتحله. فإن كان ذلك في ابتداء أمرك، وفي أول تكلفك، فلم تر له طالبا ولا مستحسنا، فلعله أن يكون ما دام ريِّضا قضيبا (1) أن يحل عندهم محل المتروك، فإن عاودت أمثال ذلك مرارا، فوجدت الأسماع عنه منصرفة، والقلوب لاهية، فخد في غير هذه الصناعة، واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه، أو زهدهم فيه)
[1/ 203 ط هارون]
،،، وكلامه هذا مع ما فيه من خالص النصح، وبليغ الموعضة، وحسن التأديب = فإنه في أعلى منازل الكلام، وأرفع درجات البلاغة. ومتى أَعجبتكَ نفسك من كلام سطّرتَه، أو رسالةٍ حبّرتها فارجع إليه وانظر في ديباجته، وتأمّل حسن رصفه، واختياره، لتعلم أنْ قد خصّه الله بمنزلة لا تكاد تُوصل.
¥