ولم تكن كتب هذا اللَّون من التَّأليف قاصرةً على الأُدباء واللُّغويِّين فقط؛ بل دخل فيها الحُفَّاظ والفقهاء -أيضًا-؛ كالَّذي رأيناه من كتاب «بهجة المَجالس وأُنس المُجالس وشحذ الذهن والهاجس» لفقيه الأندلس الحافظ المحدِّث أبي عمر بن عبد البرِّ القرطبيّ، صاحب كتاب «التَّمهيد لما في الموطَّإِ من المعاني والأسانيد»، وصاحب «الاستيعاب في طبقات الأصحاب». وكتابه هذا «بهجة المجالس» من المجاميع الأدبيَّة العظيمة، ويقول فيه ابن سعيد -بعد ذكر مصنَّفاته في الفقه والحديث والتراجم-: (مع أنه في الأدب فارس، وكفاك دليلاً على ذلك كتاب «بهجة المجالس»). «المُعرب في حلى المَغرب» 2/ 408. وهذا ابن عبد البرّ الفقيه المحدِّث هو الَّذي جمع ديوان أبي العتاهية، وعن نسخته كانت نشرة الدكتور شكري فيصل -رحمه الله-.
وهكذا كان الأدب مشرعًا يرده النَّاس جميعًا، وغبرت أجيال ونشأت أجيال، حتَّى جاء ابن خلدون في القرن التاسع ليخبرنا أنَّ كتب الأدب هي: «أدب الكاتب» لابن قتيبة، و «الكامل» للمبرِّد، و «البيان والتبيين» للجاحظ، و «الأمالي» -أو «النَّوادر» - لأبي علي القالي، ويُريد ابن خلدون أن يقول: إنَّ هذه الأُصول هي مكوِّنات الأديب).
• رِجالُ البَعْثِ والإحياءِ في العَصْرِ الحَديثِ
يقولُ الطناحيُّ: (وطُوِيَتْ أيَّام ونُشِرَتْ أيَّام، حتَّى كان العصر الحديث، وجاء رجال البعث والإحياء، هؤلاء الَّذين ردُّوا النَّاس إلى أصولهم الأدبيَّة، وكشفوا عن تلك المناجم الغنيَّة الضَّاربة في التَّاريخ بعروقِها؛ فكان الشَّاعر محمود سامي البارودي و «مختاراته»، والشيخ حسين المرصفي و «الوسيلة الأدبيَّة»، والشَّيخ سيد بن علي المرصفي و «رغبة الآمل من شرح كتاب الكامل»، وما قرأه على تلاميذه من «شرح حماسة أبي تمَّام»، وبعدهما كان الشَّيخ حمزة فتح الله وكتابه الجيِّد «المواهب الفتحيَّة»؛ فكانت هذه الآثار كلُّها زادًا ومددًا للجيل التَّالي).
• الرَّافعيّ .. والمنفلوطيّ
ثُمَّ يقولُ: (وفيما يتَّصِلُ بالبيانِ: كان هناك اسمان كبيران: مصطفى صادق الرَّافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطيّ.
وقد شقَّ علينا الرَّافعي في أوَّل الأمرِ.
ووجدنا في المنفلوطيِّ واحةً خصبة عامرةً بالنَّدَى والأزاهير، فأيُّ جنَّةٍ فتحَها لنا هذا المنفلوطيُّ في ذلك الزَّمان؟ وكم دموع أراقها! وكم قلوب خفقَتْ على بيانِه الحُلو الآسرِ؛ الَّذي انسابَ في «العبرات» و «الشاعر أوسيرانو دي برجراك» و «الفضيلة» و «ماجدولين»! ولئن كنَّا قد فرغنا من المنفلوطيِّ بعد حينٍ؛ فإنَّ أثره الضَّخم الَّذي لا يُنسَى: أنَّه حبَّب إلينا القراءة جملة؛ فإنَّ هذه الليالي الَّتي قضيناها مع بيانِه المعجب الأخَّاذ لم تضعْ سُدًى؛ لأنَّها وثَّقَتْ صلاتِنا بالأدبِ عامَّة، وبالبيان خاصَّة.
ومِن عَجَبٍ أنَّ المنفلوطيَّ هو الَّذي رَدَّنا إلى الرَّافعيِّ، وعند هذا الرَّافعيِّ وجدنا دنيا أُخرَى حافلة بالغرائب والعجائب؛ لكنَّ صورة الرَّافعيِّ لم تأخذ حجمَها الحقيقيَّ عندي إلاَّ بعد أن اتَّصلتُ بتراث الآباء والأجداد، فيما قرأتُ وفيما نسختُ وفيما حقَّقْتُ، وأيضًا: حين توثَّقَتْ علاقتي بصاحبِه ووارثِ أدبِه وعلمِه: أبي فهر محمود محمد شاكر؛ فعرفتُ أنَّ هذا من ذاك، وأنَّها ذُرِّيَّةٌ بعضها مِن بعض، وإن كنتُ أرَى أنَّ بيانَ أبي فهر لا يُشبهه بيان، وأنَّ عِلمه لا يقرن به عِلْم).
أكتفي بهذا القَدْرِ من مقالتِه الأُولَى.
ولي عودةٌ -إن شاء اللهُ- إلى مَقالتِهِ الأُخْرَى؛ الَّتي تحدَّثَ فيها عن أسبابِ تردِّي الكتابةِ، ومُجافاةِ حُسْنِ البَيانِ.
ـ[أبو سهل]ــــــــ[31 - 10 - 2010, 02:39 م]ـ
العجيب أنه لمّا فاضتْ مكتباتنا بكتب هؤلاء، وجوِّدتْ طبعاتُ تلك الأصول، واستثير المدفون منها، خلى الجوّ من الكُتّاب والشعراء والخطباء سنين طويلة.
ـ[عائشة]ــــــــ[31 - 10 - 2010, 10:27 م]ـ
• أسباب تردِّي الكتابةِ، ومُجافاةِ حُسْنِ البَيانِ، وجمال العِبارة
ذَكَرَ الطناحيُّ -رحمه الله- خمسةَ أسبابٍ:
1 - ذهاب الكبار بالموتِ أو بالملل أو بالمصانعة.
2 - قلَّة المحصول اللُّغوي عند الكُتَّابِ.
3 - تسويغ العجز باصطناع نظريَّات تمهِّد له وتُسانِدُه.
4 - السُّخرية من البيانِ والإزراء بقائله.
5 - الكسل والإخلاد إلى الرَّاحةِ.
¥