ملتقي اهل اللغه (صفحة 4464)

والمضحك، بعد كل الذى قالته بطلتنا عن أبيها واستبداده وتصلبه وقسوته مع أمها ومعها ومع أختها، أنها فى الفصل التاسع تصف هذا الأب المرعب بأنه عاش طول عمره خائفا يرفع شعار "طُوبَى للخائفين! ". إذن فالخوف ليس من نصيب نساء أسرتها وحدهن، بل للأب كِقْل كبير منه، بل الكفل الأكبر، فقد رأينا البطلة لا تضع شيئا فى ذهنها إلا حققته ضاربة عرض الحائط بكل اعتبار آخر. صحيح أنها كثيرة الثرثرة عن الذكورية المصرية والعربية، لكنها مجرد ثرثرة. أما الأب فمسكين عاش طول عمره خوافا يردد دائما: "طوبى للخائفين" كما تقول هى بعظمة لسانها، إن كان للألسنة عظم. وقد وردت عبارة "طُوبَى لـ ... " فى الكتاب المقدس 74 مرة، وهذه بعض شواهدها فى الإنجيل المنسوب لمتى وحده: "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ"، "طُوبَى لِلْحَزَانَى لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ"، "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ"، "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ"، "طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ لأَنَّهُمْ يُرْحَمُون"، "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ"، "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ"، "طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ".

لكن هل الكتاب يخلو من أية ميزة؟ الحق أن فيه بعض المزايا التى لا يمكن نكرانها، لكن مستواه كروايةٍ ضعيفٌ جدا رغم ذلك. كيف؟ أول مزايا الكتاب الأسلوب المستقيم السلس. وهى مزية نفتقدها هذه الأيام لدى الأدباء الشبان بوجه عام بل لدى كثير جدا من المشاهير فى عالم الكتابة والأدب، وهم فى الواقع لا يساوون شيئا يذكر. وحتى لو كانت أقلام المراجعين قد أجيلت فى النص الذى بين أيدنيا، وذلك أمر غير مستبعد، فيُشْكَر لصاحبة العمل أَنْ فكرت فى إخراج كتابها مبرأ من الأخطاء البشعة الكثيرة التى تعج بها كثير من النصوص هذه الأيام، وإن لم يخل تماما من الأغاليط اللغوية. فلا شك أن الحرص على الصحة ميزة فى حد ذاته حتى لو استعان الواحد منا بالآخرين.

لكن العاطفية المسرفة والكلام الإنشائى الطنان فى كثير جدا من صفحات الرواية، والإلحاح على المعنى الواحد بجمل متعددة، يفسد متعة القراءة. كذلك كنت أحب لو اصطنعت صاحبة الكتاب اللغة الفصحى فى كل أنحاء القصة ولم تقصرها على السرد والوصف، بل استعملتها فى الحوار أيضا. ولا يحتج أحد بأن حوارات الناس فى الحياة إنما تجرى باللهجة العامية، إذ الرد على ذلك سهل جدا، وهو أن الناس أيضا فى الحياة لا يحكون قصصهم ولا يصفون ما يقع أمامهم بالفصحى، ومع ذلك فها هى ذى البطلة تستعملها فى سردها ووصفها واستبطاناتها الذاتية ومناجياتها الداخلية. إن الأدب إيهام بالحياة، وليس هو الحياة. وعملاق الرواية العربية كان يكتب كل شىء فى رواياته بالفصحى، وكثير منها يجرى فى الأحياء المغرقة فى الشعبية، وعلى ألسن الأوباش، ومع هذا لا يحس القارئ بأية مفارقة أو نشاز فى حواراتها الفصحوية.

ويحتوى الكتاب كذلك على مشاهد أكثر من جيدة، كمشهد الحساب الذى ضم بطلة الرواية وكائنين يفترض أنهما ملاكان، وكمشاهد الدمار والتقتيل فى جنوب لبنان وفى فلسطين. لكن هذه المشاهد وغيرها فى الرواية ظلت مفككة لا يربطها بعضها ببعض رابط، أو لا يربطها رابط قوى. فمحور الرواية، وهو حبيب البطلة، التى لا تنفك تعود إليه دائما وتناجيه، ظل طوال الوقت شاحب الوجه، بل ضائع الملامح، ولا نعرف عنه شيئا ذا بال، ولا يظهر بنفسه فى الرواية رغم أنه هو كل شىء فى حياة البطلة. ولا تقول البطلة عنه إلا جملا مهوشة فى الغالب تعجب المراهقات، لكنها لا ترضى الفن الروائى. إن فصول "امرأة خائفة" لا ترتبط فيما بينها إلا بكونها متتابعة يقفو بعضها بعضا دون أن يكون هناك رابط سببى بينها. وقد وضحتُ مرارا وتكرارا أن البطلة كانت كلما عن فى بالها أو رأت فى طريقها مثلا شيئا أدخلته فى عملها. ولعلها تستفيد من هذه الملاحظات وتراجع فى ضوئها ما تكتب ولا تنصت إلى المبالغات السخيفة التى من شأنها، لو صدقتها وتصرفت بمقتضاها، أن تفسد مستقبلها الأدبى. إن العمل الذى أخرجتْه لنا يحتوى على عدد من المشاهد والتقارير الصحفية

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015