لقد أنكرت بطلتنا أن يتخذ الصحفى الذى سبق ذكره آنفا زوجة أخرى إلى جانب زوجته التى ما زالت على قيد الحياة، وأنكرت أن يكون لأبيها زوجة أخرى بعد أمها، التى ماتت، وأنكرت أن يكون لحبيبِها المفدَّى زوجة أصلا لأنها تريده أن يكون لها عاشقا، وتنكر أن ينساها ولا يبالى بها رغم أنها ليست بزوجته ولا لها عليه أى حق، علاوة على أنه لا يشعر نحوها بحب، وله من العشيقات طابور طويل يغنينه عنها وعن ألفٍ مثلها. بالله أليس هذا أمرا مضحكا؟ إننى مثلا لا أحبذ الزواج بأكثر من واحدة، لكنى لا أنكره على من يفعله. ولى صديق ماتت زوجته من مدة، ويريد أن يتزوج، ويطلب منى المساعدة، فأضحك قائلا له: "يا ابن الحلال، ارض بما أنت فيه من سكنية وراحة بال، والتمس السعادة باللعب مع أحفادك، ولا تدخل فى تجارب لا تدرى فى هذا العمر المتأخر شيئا عن طبيعتها، ولا تتعرضْ من البلاء لما لا تطيق كما قال سيدنا النبى". ورغم ذلك فلو علمت أنه قد تزوج ما أنكرت عليه.
ومن ثم لست أفهم فيم كل هذه الهيصة والزمبليطة من بطلتنا الهمامة وكلامها الحنجورى عن المجتمع الذكورى بينما تريد أن تقمع أباها الذكر بنسوية ظالمة مجحفة! والسخيف أنها تنكر على الرجال تشبثهم، كما تقول، "بقول الرجال قوامون على النساء" محيلة الآية الكريمة، كما يرى القارئ، إلى مجرد قول فى الوقت الذى تقدم فيه كلام المسيح عليه السلام بعبارة "يقول الرب". ألم أقل: سمك، لبن، تمر هندى؟ من الآخر: الست البطلة تريد أن تعشق وتذوب وتمارس الغرام بكل حرية مع رجل ليس زوجها ولا يفكر فيها وله زوجة وعشيقات متعددات يرطنّ بالإنجليزى والفرنسى والألمانى وبكل الألسنة الأخرى التى كلم بها أدهم الشرقاوى مأمور إيتاى البارود، وكالمغنى الخليجى الذى لا أعرف اسمه والذى يقول إنه يحب حبيبته بكل لغات العالم، وكالأغنية التى كنا نحفظها ونحن شبان صغار من فلم "سانجام" حيث يردد المغنى جملة "أحبك" هكذا: " I love you- Je vous aime- Ich liebe dish، هُمَّه يحِبُّوا بعض"، لكنها فى ذات الوقت ترفض أن يتزوج أبوها بعد وفاة أمها. إنها لا تجد حرجا فى تذكر حبيبها خلال غمرات الموت التى كانت أمها تخوضها وعقب موتها وبعد موتها بعامين وأكثر من عامين، وتصيع فى الشوارع والكافيهات وقد انتفضت ذكرياته فى كيانها كله فتتنهد وتشهق وتزفر مسكونة به لا تستطيع أن تنسى ذوبانها فيه (وخذ بالك من "حتة الذوبان" هذه. وهو كلامها لا كلامى أنا)، لكنها لا تسمح لأبيها أن يتزوج على سنة الله ورسوله.
وهنا، على عادة بطلتنا التى لن تشتريها من الخارج لأنها طبع، والطبع غلاب كما تعرفون، تسرح بطلتنا فى مناجاة حارة مع حبيبها الذى لا نعرف عنه شيئا يذكر، فتقول فى آخر الرواية إنها لم تكن سعيدة بحبه، بل كانت تستدعى السعادة حتى تسعد به. يعنى أن كل الرواية طلعت فاشوشا، وكل ما قالته عنه وعن حبها له هو كلام هجاصين. ثم تترك نفسها للشارع والمترو متنقلة من موضوع إلى موضوع ومن مشهد إلى مشهد لا تكف عن انتقاد كل شىء ولا عن استعراض وطنيتها وإنسانيتها واستنارتها وكرهها الحنجورى للمجتمع الذكورى إلى أن تنتهى الرواية دون أن تستطيع التخلص من ذكريات حبيب القلب الذى لا يبالى بها والذى لا تدرى، كما تقول، مع أية امرأة هو الآن ولا ماذا يفعل معها، وإن كان الجواب هو أنه يفعل معها ما كان يفعل معك يا ذكية.
وفى ختام الرواية تقول البطلة إنها قد تلاشت بين البضائع المنثورة على الرصيف غير المعروفة الهوية أو تاريخ الصنع. وهو الختام الطبيعى لمثيلاتها ممن يَلُكْن مصطلحات ومفاهيم لا يحققنها ولا يفهمنها الفهم الصحيح، ورغم ذلك يُفْتَنّ بترديدها على السماع، فيضيعن أنفسهن ويهلكنها ولا يستفدن من النعم التى يفيضها الله عليهن بشىء، ويذهبن يتصايحن بإدانة المجتمع الذكورى المتخلف الغاشم قامع النساء ومحيل حياتهن إلى جحيم لا يطاق، ذلك الجحيم الذى لا وجود له فى الغالب خارج أذهانهن المضطربة.
¥