ملتقي اهل اللغه (صفحة 4462)

والخواطر التى تنبت فى رأسها بغتة دون خارطة طريق فهذا برهان على التهافت الفنى.

وغريب جد غريب أن تظل بطلتنا تتهافت على خالد الراوى ولم يبق إلا أن تبوس جزمته كى يبادلها ولو كلمة واحدة، وهى الثائرة المتمردة على جنس الرجال المستبدين الطغاة الذين لا يعرفون الرحمة ولا العطف ولا يفهمون سوى ظلم المرأة والجور على حقوقها وإنسانيتها. كنت أتصور أن تكون على مستوى هذه الاستنارة اللفظية ولو مرة واحدة، بيد أنها قد خذلتنا. أذكر فى هذا السياق كيف أن صديقا لى كتب ذات يوم بحثا علميا يثبت فيه ما تقوله بطلتنا من أن مجتمعنا بل أمتنا كلها فى ماضيها وحاضرها تظلم النساء وتحتقرهن ولا تقيم لهن وزنا حتى إن بلاغتها لتشبّه المرأة بالدابة عند الجماع فيقال: "ركب فلان فلانة". وبغض النظر عن أنهم فى الإنجليزية والفرنسية، كما بينت عند مناقشتى لكلامه فى أحد كتبى، يستخدمون الفعل ذاته: " to ride, to mount- monter " وعن أن الرجال فى مجتمعاتنا يعطفون على بناتهم حتى لو بدا أنهم قساة عليهن، وينظرون إلى نسائهم بوصفهن شرفهم وعرضهم وكرامتهم، ويحترمون أمهاتهم ... إلخ، فقد هالنى، حينما كان عندى فى مكتبى بالجامعة ذات يوم، هجومه على المرأة هجوما شنيعا مقللا من قدرها وعقلها وفهمها، فقلت ضاحكا: الله أكبر! أين انحيازك الظالم لها ضد الرجال؟ إننى لا يمكن أن أقول عشر معشار ما تقوله الآن فى المرأة، ولا أرى أنها تقل فى الإنسانية عنا نحن الرجال، ولا ينبغى أبدا الحط من شأنها. فما كان منه إلا أن ابتسم ابتسامة المحرج وسكت ثم حول دفة الحديث إلى موضوع آخر.

ومن ذلك أيضا أننى، فى تسعينات القرن المنصرم، كنت أحضر مجلسا أدبيا فى عيادة أحد الشعراء، وتعرفت هناك إلى مهندس يسارى تقدمى مستنير فوجئت به ذات ليلة، بعد أن انصرفت امرأة خليجية كانت موجودة معنا فى الصالون، وكانت زوجة سابقة لكويتب وقح مثير للجدل والقرف، فوجئت به يهاجمها ويصفها بأحط الصفات الخلقية. لماذا؟ لأنها تحضر مجلسا رجاليا كمجلسنا. فأعربت عن تعجبى من موقفه هذا، وهو اليسارى التقدمى المستنير. فأجابنى أن هذا مجرد كلام يقال باللسان، وأنه لا يمكن أن يسيغ مثل تلك التصرفات. ومن البين أن بطلتنا من هذا النوع: جعجعة ولا طِحْن. تهاجم الرجل كلاما، وتتهافت عليه واقعا وسلوكا، وتنسى فى تهافتها أن ثم شيئا اسمه الكرامة والخلق وعزة النفس، وبخاصة أن الرجل الذى تحبه لا يلتفت إليها ولا يبالى بها، وأنه قد رماها خارج نطاق وعيه تماما كما هو واضح من كلامه هى ذاتها. وقد رأيناها تنتقد بعض المذيعين والصحفيين فى سلوكهم مع الفتيات من أمثالها على نحو يناقض ما يدعون إليه فى العلن. فهل تراها أفضل منهم؟

ومن هنا أستغرب دهشتها من أن أباها، بعد موت أمها، أعلن عن رغبته فى الزواج، متسائلة كيف ينسى الناس زوجاتهم بهذه السرعة؟ ناسية أنها، فى عز مرض أمها وآلامها وتوقعهم لموتها بين آونة وأخرى، كانت تناجى حبيبها المتزوج الفلتان الذى يعلق النساء كالمفاتيح فى مدلاته والذى لا يسأل عن صحتها ولا يبالى بها. وهكذا تكون التقدمية والاستنارة من بطلتنا، تلك الاستنارة التى لا تكف عن إزعاجنا بمقولات الحنجوريين والحنجوريات عن المجتمع الذكورى المتخلف. بالله ما وجه الخطإ فى أن يتزوج الرجل بعد موت زوجته أو أن تتزوج المرأة بعد موت زوجها ما داما يشعران بالحاجة إلى الزواج ولا يقدران على العيش دون قرين؟ أليس تنطعا من بطلتنا أن تقف من أبيها هذا الموقف السخيف الخالى من العقل والإنسانية؟ بالله من الذى يريد مصادرة حرية الآخر: الأب، الذى نزل على رغبة ابنته فى كل شىء كما رأينا أَمْ الابنة، التى تنكر عليه حريته فى الزواج بمن نؤنس وحدته؟ ثم جاءت صديقة لبطلتنا فزادت الطين بلة، إذ قالت لها متعجبة من موقفها هذا: "هل تنبت لك فى ذقنك لحية؟ " (قالتها بالعامية)، فأجابتها وهى لا تفهم مغزى السؤال: "طبعا لا". فقالت الشملولة: "إذن فلن تستطيعى أن تعرفى كيف يفكر الرجال". بارك الله فيك يا شملولتنا، فقد جئت بالتائهة!

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015