ملتقي اهل اللغه (صفحة 4461)

البطلة، فهى تفعل الشىء بمجرد ما يعن لها أن تفعله دون التفات إلى أصول الفن.

كما أن قولها: "رحلة نيلية" عن رحلة الجندول فى البندقية سهوة فيها من الظرافة ما فيها. وتذكرنى بما قاله موظف ريفى الأصل قابلته بالقاهرة أواخر ستينات القرن المنصرم، وكنا فى مجلس يضم بعضا من المصريين المتعلمين وصديقا يابانيا كان يدرس معنا أيامها بجامعة القاهرة، فتطرق الحديث إلى الزراعة والرى، فما كان من الموظف ذى الأصل الريفى إلا أن انبرى يسأل محسن يوشيهارو أوجاساورا قائلا: "وهل تستخدمون فى زراعتكم باليابان الماء النيلى يا أستاذ محسن؟ "، فكانت طرفة.

ويحتوى الفصل العاشر على حادثتين: الأولى إحياء الذكرى الثالثة لغرق عبارة السلام حيث تحدث بعض أهالى الضحايا وسردوا مآسيهم، وبكت البطلة بكاء حارا تعاطفا مع هؤلاء المساكين وتألما لمعاناة الغارقين رحمهم الله واستنكارا للامبالاة الوحشية التى تعاملت بها الدولة مع الفاجعة. والثانية مقتل السادات فى أكتوبر 1981م وبكاء أبيها العنيف رغم رفضه ما فعله رئيس مصر من التصالح مع إسرائيل والانحياز إلى الولايات المتحدة ورغم حب الأب الجارف لجمال عبد الناصر مع تحفظه على سجن الإخوان كما تقول البطلة. وليس بين الأمرين صلة كما هو بين. إنما هو أمرٌ عَنَّ للبطلة فسجلته وكتبت عنه، والسلام. وهو عيب ملازم للرواية كما وضحنا مرارا. لكن يحمد لها هذه المرة أنها لم تفرض علينا مناجاتها مع حبيبها، ذلك الذى لا نعرف عنه شيئا سوى أنه قابلها فى مطار بيروت وتعارفا هناك قبيل إقلاع الطائرة، ثم اتصلت به فى القاهرة مرات وتعددت لقاءاتهما فى إحدى القهوشيات، وتسابقا جريا فى الشارع مرة، ثم سمعناها تتكلم عن هجره وخيانته لها دون أن نعرف طبيعة ذلك الهجر ولا تلك الخيانة، بل دون أن نعرف شيئا عن المدى الذى بلغته علاقتهما غير لقاءات القهوشية والاستماع هناك لموسيقى زامفير وتلامس أيديهما وقُبْلَته لها على جبينها، وكان الله يحب المحسنين!

لكن إذا كانت البطلة فى الفصل الماضى قد خيبت توقعنا فى مناجاة حبيبها فى عز المصيبة التى تحكيها لنا فقد رجعت إلى قواعدها سالمة فى الفصل الحادى عشر، الذى خصصته لموت أمها بعد توقف كليتيها عن العمل ورفضها إجراء غسيل لهما. ففى غمرة أحزانها على موت أمها وتألمها الشديد بسبب تخيلها للدود يأكل عينيها ووجهها وسائر جثتها تحت التراب نراها قد جاءتها النوبة بغتة كما عودتنا، فتقول دون أية مقدمات مناجية له: "ما أحوجنى اليوم إليكَ! وما أبخلكَ! فكم نحن بحاجة إلى الحب حينما تقسو الحياة ويشتد الألم. ما أحوجنى إليك، وما أقساك أنت! ... كم أنت قاس قسوة الزمن، وكم أنت موجع وجع مرض أمى! "، لتنتقل عقب هذا مباشرة إلى الحديث عن رفض أمها طوال ثلاثة أيام بلياليها لعمل غسيل كلوى إلى أن انتقلت إلى عفو الله ورحمته. كما نراها تقول وهى تتلقى عزاء أمها فى قريتهم بعد أن دفنوها هناك: "اليوم أنظر حولى: جميع الناس معى جاؤوا من بعيد ومن قريب، إلا أنت الغائب الحاضر دائما. لا أعرف إذا كنت قد علمت بموت أمى أم إنك تتجاهل حزنى كما كنت دوما تتجاهل حبى. ترى أين أنت الآن؟ وماذا تفعل بالزمن؟ ". ولا شك أن هذا تصرف غريب: غريب من الناحية الإنسانية، وغريب أيضا من الناحية الفنية، ولا يصدق عليه إلا أنه "سمك، لبن، تمر هندى".

إن هذه الميوعة العاطفية لا تعجبنى لا من الناحية الإنسانية المحضة ولا من ناحية الإبداع الأدبى. هذا كلام قد يعجب السطحيين السذج الذين لا يشجيهم غير النهنهة وعبارات المراهقين الإنشائية. ثم إن الحبيب الموهوم لم يعد له وجود فى حياتها منذ زمن طويل وصارت تنعته بالهاجر والخائن والقاسى، فما معنى استنجادها به فى مثل ذلك الموقف، الذى هو فوق ذلك آخر ما يصلح فيه مثل تلك المناجاة؟ ثم كيف كانت تريده أن يأتى لتعزيتها والوقوف إلى جانبها؟ ترى ماذا كانت ستقوله عند ذاك لأهلها؟ أتقول لهم إنه حبيبى جاء يعزينى ويخفف عنى؟ إلا أن البطلة التى لا يحلو لها الكلام عن الجلّة إلا فى سياق اللقاءات العاطفية مع حبيبها لا يستغرب منها شىء. وعلاوة على ذلك فإن البطلة لا تحسن ربط موضوعاتها بعضها ببعض ولا تعرف أن هناك شيئا اسمه البناء الروائى، وهو أمر يحتاج إلى تصميم مسبق، ولو فى خطوطه العامة. أما أن تترك نفسها هكذا للمصادفات

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015