ثم تبدأ البطلة مناحة أخرى لأنها، وهى المرأة الشرقية التى لا تحسن سوى العربية كما تقول، لا تستطيع أن تزاحم عشيقات حبيبها، اللاتى تتحدث إحداهن الإنجليزية، والثانية الفرنسية، والثالثة الألمانية رغم أنهن كلهن مصريات، لكن مصريات خواجايات، ودعنا من زوجته، التى لا ندرى بأية لغة ترطن له بها فى لحظات الانشكاح والليالى الملاح. والواقع أن الواحد لا يدرى أنحن أمام قصة غرامية أم عصبة أمم أم برج بابل. اتركونا من هذا كله، وتعالَوْا إلى ما صدعت به البطلة رؤوسنا عن المجتمع الذكورى الذى يظلم فيه الرجال النساء ظلم الحسن والحسين، فأين كرامتك يا فتاة وأنت تتهافتين هذا التهافت الشائن على رجل يعلق النساء كالمفاتيح فى مُدّلاَّته؟ واضح أن البطلة لا تحسن شيئا سوى الثرثرة والكلام الفاضى!
وهكذا تمضى الرواية حتى ختامها: قصة من الشرق، وأخرى من الغرب، ومشاهد تصادفها البطلة فى طريقها فتترك موضوعها الأصلى بل تنساه تماما وتأخذ فى الثرثرة إلى أن تجد نفسها قد أخرجت كل ما عندها فى ذلك الأمر الطارئ من ثرثرة، فحينئذ تستدير قليلا نحو حبيبها تناجيه فى دخيلة نفسها متناولة من الموضوعات ما يعنّ لها أو ما تصادفه أمامها، إلى أن ينفد ما تقوله فتعود إلى حبيب القلب لحظات قليلة تنتقل بعدها إلى موضوع آخر ... وهكذا دواليك. والبطلة، كما تكررت الإشارة، تريد جنازة تشبع فيها لطما، فحكاياتها كلها يسودها الغم والكآبة مهما بدت فى أول الأمر واعدة بالبهجة، إذ لا بد أن يموت الشخص الذى تدور حوله الحكاية، وتكون ميتته مأساوية. كيف؟ هذا سر من أسرار عبقرية البطلة لا يمكننا معرفته. ومن ذلك حكايتها عن ابنة عمتها التى رفضت خطيبها الأول فعوقبت من أهلها، عند زواجها بغيره، بأن تم القران فى صمت، ثم كان الحمل والفرحة به، ولكنها قبيل الولادة تصاب بمرض فى المخ وتموت بسببه.
وفى الفصل التاسع نجد مشهدا بارعا أخذتنا البطلة إليه على حين غزة كعادتها. لقد كانت تصف احتفال الأسرة بزواج أختها، وبغتة ألفيناها تتحدث عن أعراض الصداع الذى يصيبها هى بين الحين والحين لينتقل الأمر إلى غرفة واسعة أُلْقِيَتْ عليها فيها ملاءة بيضاء طويلة عريضة بعدما دُلِق عليها أباريق من الماء البارد، ووقف كائنان يرتديان أيضا ملابس بيضاء يسألانها عن سنها وأعمالها فى الدنيا وهل تستحق أن تدخل الجنة أو لا، فتجيبهما بأنها تتمنى ذلك، وإن كانت لا تستطيع أن تعرف هل تستحقها أو لا. وهو مشهد لم أقابل مثله من قبل. والوصف والحوار ممتعان. وفى نهاية المطاف يتضح أنه إغماء، وأنهم أحضروا الطبيب ليفوّقها منه. ولكن رغم ما فى المشهد وطريقة تقديمه للقارئ من إمتاع أحب أن أسأل: هل المغمى عليه يمكن أن يشعر أو يدرك أى شىء مما يقع له أثناء النوبة بحيث يستطيع استعادته بعد النهوض منها؟ بطبيعة الحال لا. فكيف إذن استطاعت البطلة أن تدرك وتتذكر ما اعتراها خلال تلك النوبة؟ ثم إن البطلة لا تنبئ أفكارها ولا تصرفاتها طوال الرواية عن اهتمام بالدين والحياة الأخرى والحساب والثواب والعقاب، اللهم إلا مرة يتيمة حين كانت أمها على وشك الموت، فصلت بطلتنا الفجر ودعت لها، فكيف لم يخطر لها أثناء النوبة، إذا كان لنا أن نقيسها خطأ على النوم والأحلام، إلا مشهد الحساب الذى يشير إلى أن الكائنين اللذين حاسباها هما ملكان من الملائكة؟
كذلك يقابلنا فى هذا الفصل بعض مشاهد الدمار والقتل الذى يوقعه الصهاينة بإخواننا فى فلسطين. وهى مشاهد مؤثرة يمكن أن تكون تقارير صحفية جِدّ ناجحة. لكن البطلة للأسف تفسد كل ذلك بانتقالها فجأة إلى مناجاة حبيبها. وليس العيب فى الانتقال المباغت وحده، بل لا يوجد كذلك أى تناغم بين مناجاتها وبين ما كنا فيه من عرس أختها وما أصابها خلاله من إغماء ولا بينه وبين مشاهد الترويع فى فلسطين. على العكس ثَمَّ تعارض واضح بين الأمرين جدير بإفساد الأمر كله: "مضى فصل الشتاء، فأين أنت الآن؟ أتراك فى رحلة نيلية على ظهر مركب صغير فى فينيسيا تمارس الحب على ضوء الشموع؟ أم إنك الآن فى باريس تعيش حكاية جديدة تبدؤها من حيث نهاية غير سعيدة لامرأة مثلى؟ ... ". إلى مثل هذه المناجاة تقفز البطلة بغتة من المشاهد الفلسطينية المأساوية دون تمهيد أو تدريج، وقد تكرر مثله كثيرا، وهو دليل على ضعف الصنعة الروائية عند
¥