ملتقي اهل اللغه (صفحة 4459)

لم تذهب يوما إلى مسجد، فكله كلام فى الهواء مما لا يكلف صاحبه شيئا. وأنا، حين أقول ذلك، لا أشم على ظهر يدى، بل أقوله اعتمادا على قصتها، التى لا تذكر فى أى موضع منها أنها تذهب إلى المساجد. وكل ما تقوله أنها تقابل حبيبها فى قهوشية فيمسك يدها ويقبلها "فوق جبينها" ويستمعان إلى معزوفات زامفير وبين أيديهما زهرية فيها وريقات ورد قرمزية، ثم هى تتركه جالسا أمامها وتروح فى ذكريات الجلة رغم أنها ظلت طوال عمرها تنتظر ذلك الحبيب العجيب الذى كانت تشاهده فى المنام من قبل الأوان بأوان كما فى الأفلام الرومانسية.

وتمضى البطلة فتشكو من أن حبيبها جُرْحٌ دامٍ فى حياتها وأنه يهجرها ويؤلمها ولا يستجيب لنداءاتها، ثم تتحدث عن حلوى مما تباع فى الشارع اشترتها لتأكلها، فوجدت أنها بلا علامة تجارية أو تاريخ إنتاج أو ذكر لبلد المنشإ، فتروح فى مندبة أخرى، إذ تجد أن هذه الحلوى تشبهها. وهو تشبيه مضحك، فهل كانت تريد أن يخبطوها خاتما على قفاها مثلا يحدد البلد الذى أتت منه، فيقولون: " Made in صلى الله عليه وسلمgypt"؟ أم ماذا؟ ألا يرى القارئ مدى السذاجة التى تتمتع بها بطلتنا؟ ثم إنها لا تكتفى بهذا بل تتكلم بهذه المناسبة عن مصر الضائعة وقيمها المنهارة وعمالها البائسين الضائعين فى شوارعها يعانون الفقر والهم والغم. ولكنها للأسف نسيت أن تنوح قليلا على واحد مسكين مثلى كُتِبَ عليه أن يطالع روايتها ويتجرع هذه الغصص.

ويبدأ الفصل السادس بكلام بجح لا ظل له من الحقيقة، فبطلة الرواية تزعم أنها مكشوف عنها الحجاب (مثل الممثلة فلانة الفلانية، التى قالت عن نفسها: "أنا شيخة، ومكشوف عنى الحجاب")، فهى تشعر بالموت قبل وقوعه بزمن بعيد، ذاكرةً كشاهدٍ على ذلك مقتل خالها ومقتل راكبى عبارة السلام وسقوط الطائرة المصرية فى المحيط الأطلسى أمام السواحل الأمريكية، مع أنها، حين سردت هذه المآسى، كان واضحا أنها قد فوجئت بها مثلنا تماما نحن الذين لم نوهب مقدرة الشم على ظهر اليد ومعرفة الغيب قبل الهنا بسنة. كما أنها، حين تناولت موضوع شفافيتها الروحية كرة أخرى فى الفصل الحادى عشر، قد سردت بعض الأعراض التى تقول إنها تنتابها قبيل وقوع الموت من حولها، وهى انقباضةٌ فى القلب وضيقٌ فى التنفس وهَمٌّ يجثم على الصدر، وهو كلام عام نسمعه كثيرا على ألسن العوام، ورغم هذا لم تذكر لنا أنها قد شعرت بشىء من هذه الأعراض فى أية مرة من مرات الموت التى أوردتها. والحمد لله أنْ تواضعت فى ذلك الفصل وقالت إنها، عند موت أمها، لم يعترها أى عرض يدل على اقتراب الموت. وهذا دليل آخر على أن كلام البطلة لا يحكمه ضابط ولا رابط، بل تقول كل ما يخطر على بالها دون تمحيص.

وبعد ميلودراما أخرى من ميلودرامات الرواية التى ليست لها نهاية نفاجأ ببطلتنا (أو بالأحرى: لا أفاجأ بها لأننى حفظت ألاعيبها جيدا) وهى تنتقل دون إحم أودستور إلى مناجاة حبيبها ناسية الميلودراما التى كانت فيها منذ لحيظة، ميلودراما البنت الصغيرة التى انهار عليها وعلى أمها وأخواتها والجيران المنزل، وظلت إلى الصباح حتى أنقذوها، فلما خرجت إلى النور وشمت الهواء النقى ماتت، فتقول بطلتنا لحبيبها: "نفدت زجاجة عطرك القديم، وجاءنى صوتك عبر الهاتف وأنت تهرول فى كل ما تفعل استعدادا للقاء جديد ... إلخ". ما هذا الخلط والنط من موضوع إلى موضوع لا تربطه به أية صلة؟

ومن المضحك أن نراها تحكى لنا أن حبيبها كان يلبس جوربه ويزرر قميصه ويدخل قدميه فى سرواله ويغسل أسنانه بالمعجون ويحكم ربطة عنقه ويفتح زجاجة عطر جديده وينثر منها على نفسه، كل ذلك وهو يحدثها فى الهاتف. كيف؟ الله وحده يعلم! والنبى ومَنْ نَبَّا النبى لو كان حبيبها هذا بهلوانا يلعب بالبيضة والحجر ما استطاع ذلك. لكن البطلة التى جعلت بطانية أخيها تتقافز بسبب عفريت الجندى الذى كان يستخدمها فى القشلاق قبل أن يقتل فى الحرب قادرة على أن تجعل لحبيبها الخائن الغادر عشر أذرع كالأخطبوط يستطيع بها أن يفعل كل هذا فى ذات الوقت. ثم إننا لا نعرف كيف صار هذا الحبيب خائنا غدارا ولا السبب فى خيانته وغدره. لقد أرادت البطلة أن يكون خائنا غدارا، فكان. لتكن مشيئتكِ يا بطلتنا!

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015