ويتكون الفصل الخامس من أقل من أربع صفحات، فهو قزم هزيل بين الفصول الأخرى. وليس فيه إلا أنها كانت تستقل سيارة أجرة فى طريقها لمكتبها فى الصحيفة التى تتولى فيها باب "بريد القراء"، مع تخصيص صفحتين من الكلام الثرثار عن أهمية هذا الباب. وفى أثناء ركوبها التاكسى تصادف أن استمعت لأحد المذيعين الرياضيين وهو يطالب الناس بأن يتصرفوا فى مباريات كأس الأمم المقامة فى مصر بتحضرٍ ورُقِىٍّ، فتذكرت فى الحال ما قالته لها إحدى زميلاتها عن عرض ذلك المذيع عليها الزواج سرا كما يفعل كثير من أمثاله بغية تجديد حياته، التى أجدبت مع زوجةٍ اقترن بها أيام الفقر ولم يعد يجد لديها ما تقدمه لمتعته. وهى تقول ذلك من باب الانتقاد الشرس لجنس الرجال ذوى العيون الفارغة الذين يستحقون الحرق. أما ما تفعله هى مع خالد الرواى زير النساء الذى لم يخف عنها شيئا من مغامراته وفجوره مع النساء وخداعه لهن، وتراميها عليه رغم ذلك ومطاردتها له، فحَلاَلٌ زَلاَلٌ بَلاَل.
وهكذا الأمر أيضا فى الفصل السادس، ففيه كلام عن مذيع تلفازى من نفس الطينة والعجينة أغوى بنتا صحفية تعلقت به لخفة ظله وشهرته وأناقته حتى حملت منه ثم لفظها ولم يرض أن يتزوجها. ثم ينتقل الكلام، بطريقة "سمك، لبن، تمر هندى"، إلى حادثة غرق العبارة المشهورة التى راح ضحيتها نحو ألف وثلث، والبطاطين التى كان رجال الإسعاف يلفون فيها الناجين القلائل من الغرق، لينتقل إلى البطانية التى كان خالها المجند فى الجيش قد أحضرها معه من المعسكر فأصابت البيت بزلزال، وكانت تتحرك فى مكانها كأن عفريتا يختفى تحتها، إلى أن أخذها الخال خارج البيت وأشعل فيها النار تخلصا من عفاريت الجنود المقتولين فى حرب 1967 الذين كانوا يتغطَّوْن بها، وهو ما دفعها إلى أن تخصص جزءا من هذا الفصل لمناقشة موضوع العفاريت هذا، وهل يمكن أن يكون للشهداء عفاريت؟ وكأن هناك فعلا عفاريت للمقتولين من غير الشهداء. ثم فجأة تنعطف البطلة نحو حبيبها فتناجيه بينها وبين نفسها كعادتها على طول الفصول الماضية، وتتحدث عن حبها له وللوطن، ثم عن حبها لله، فـ"الله محبة"، ولا يمكن أن يلومنا البشر على أن "الله محبة" تلك الكلمة "الإسلامية القبطية" كما تقول، وتمضى فتشرح لنا أننا نقول إن الله محبة لأن الحب هو أصل الوجود، فلماذا يستكثر حبيبها ووطنها عليها أن تحب؟ صحيح: لماذا؟ لكن من قال إن حبيبها ووطنها قد أنكرا أو استكثرا عليها أن تحب؟ ومتى كان ذلك؟ وبأية أمارة يا ترى؟ إنها منذ أول الرواية حتى الآن وهى نازلة حبا فى حب، ولم أسمع أحدا يستنكر منها ذلك. أم هو كلام والسلام؟
ثم تترك البطلة حبيبها فجأة كما تذكرته وخاطبته وناغته وهامت به فجأة، ودخلت فى عدة قصص أخرى كقصة الشاب المتخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتفوق كبير، والذى قدم أوراقه للاشتغال فى الخارجية، وكان من أسرة فقيرة، فرُفِض طلبه وقيل فى سبب الرفض: "غير لائق اجتماعيا"، وهو ما دفعه إلى إغراق نفسه فى النيل. وهى قصص تتكدس فيها المآسى تكدسا دون أن تكون هناك بارقة أمل، ودون أن يكون هناك فى العادة منطق أو عقل، مما يعجب السطحيين الذين لا يفهمون أوضاع الحياة ويغرمون بالاستماع إلى النواح ومشاهدة اللاطمين ظنا منهم أنه كلما زاد النواح واشتد اللطم كانت القصة رائعة. وبعض تلك القصص يذكرنا بكل قوة بالأفلام الهندية التى صار يُضْرَب بها المثل على البلاهة.
وبعد أن قضت بطلتنا من هذه الأفلام الهندية وطرا تحولت بغتة، وبدون سابق إنذار، إلى حبيبها تناجيه قائلة هكذا من الباب للطاق: "رغم هذا كله ما زلت أبحث عنك وعن الوطن. أنظر إلى كل هذه الوجوه حولى أستجدى دعوة براحة البال، أنضم إلى الهائمين على وجوههم فى بيوت الله بحثا عن نفحة رحمة تأتينى من السماء، يتعلق قلبى بكل مئذنة مسجد وقت الأذان لكل صلاة وكل جرس لكنيسة يدق للتذكرة بالله، أحسك ملء الهواء وملء الأرض وملء السماء، وبالرغم من هذا لا أراك". ويرى القارئ دون أن يحتاج منى إلى تنبيه كيف أن إحساسها العالى بالوحدة الوطنية لا يتركها هنا أيضا، فهى تذكر الكنيسة جنب الجامع خبط لزق مثلما ذكرت فى الفصل الأول ترانيم قداس عيد الميلاد بجوار التراتيل فى الحضرة الصوفية تعبيرا عن شفافية الأجواء الروحانية. لكنى أحب أن أقول له إن بطلتنا
¥