ألم تصدعنا البطلة، عفا الله عنها، بالحديث الممل المزعج عن ظلم النساء واضطهادهن وحرمانهن من كل حقوقهن فى مجتمعنا الذكورى اللعين، وبالذات فى أسرتها التى تتميز نساؤها وبناتها بأنهن مصابات بخوف مزمن حتى ليخفن من خيالهن ويصبن إذا لمحن هذا الخيال بالإغماء مثلما غُشِىَ على قراء الرواية نظرا لما فيها من قوة العبقرية وبلاغة السرد والتصوير والمآسى الفاجعة، وهو ما يذكرنا برواية "آلام فرتر"، التى شاع انتحار كثير من قرائها لدن صدروها تقليدا لانتحار بطلها؟ ولم لا؟ أليست عبقرية البطلة من نفس عيار العبقرية التى كان عليها جوته؟ أليست البطلة هى "نجيبة محفوظة" العصر والأوان كرما من الله ونعمة حتى لا نعيش يوما بدون أن يكون بيننا العبقرى الألمعى عمنا الكبير نجيب محفوظ ولو فى طبعة أنثوية تصيب الناس بما لم تستطع رواياته أن تصيبهم به من الإغماء بحيث يشح البصل (لزوم تفويق الناس!) من الأسواق، فيرتفع سعره، ويجنى محتكروه الأرباح الفلكية من ورائه؟
لقد انتشر الصحفيون والمذيعون والمراسلون التلفازيون فى كل مكان من أرض مصر المحروسة، ورصدوا حالات الإغماء، فتبين لهم أن نصف المصريين قد أغمى عليه، وأن النصف الآخر فى طريقه إلى الإغماء: واحد واحد يا زباين! والظاهرة الجديرة بالتسجيل هى أن كل من أُغْمِىَ عليه ما إن شمموه بَصَلَة ونهض من غفوته حتى أقسم بالطلاق والعتاق إنه لن يتوقف عن إكمال قراءة الرواية حتى لو راح فطيسا بسببها. وهى ظاهرة عجيبة فعلا لم يسجلها التاريخ الأدبى فى أى بلد من قبل، ولا أحسبها يمكن أن تتكرر من بعد.
ولقد سرحت بطلة روايتنا عن حبيبها هذه المرة أيضا فصلا كاملا بحذافيره كلها وحَوْبَرِه وزَوْبَرِه لم يأت له ذكر خلاله بأى حال من الأحوال ولو من بُعْد سبعين خريفا. والواقع أن فضولى يكاد يقضى علىَّ حتى أعرف ماذا تم بين الحبيبين فى هذه الجلسة الرومانسية التى كانت تصدح أثناءها موسيقى الفلوتست الرومانى جورجى زامفير، ويعبق فى جنباتها عبير أوراق الورد القرمزية. ونصل إلى الفصل الرابع لنفاجأ فيه بأن البطلة قد تمردت على ما كان يريده لها أهلها فرفضت الزواج من ابن خالها، وتزوجت من رجل آخر وافق على أن تكمل تعليمها، ولنفاجأ مرة أخرى بأنها طلبت الطلاق منه ونجحت فى الحصول عليه رغم أنف أهلها. كل ذلك، وهى ماضية طوال الوقت فى الشكوى والنواح من أنها لا تمارس حريتها. كما نفاجأ أيضا أنها، بعد أن أكملت تعليمها وتوظفت (وهو ما يعنى مرور نحو عشرين عاما منذ كانت فى الثانية عشرة من عمرها حين أرادوا تزويجها إلى أن صارت امرأة ثلاثينية كما تقول عن نفسها عندما قابلت حبيبها)، نفاجأ بأنها لم تتأقلم مع زوجها الذى لم تتزوجه عن حب، وكانت لهذا السبب تشعر، كلما مارس معها حقه الطبيعى كزوج، أنه ينتهك جسدها، فسقطت مريضة لا يعرف الأطباء علة مرضها ولا كيفية الشفاء منه، ودار بها الأهل على الدجالين والمشعوذين والمتاجرين يالقرآن وقارئى الفنجان وغيرهم لعلهم يستطيعون لها علاجا، لكن دون جدوى، ونفاجأ كذلك بأنها تركت أهلها يصنعون بها كل ذلك دون أية مقاومة. وهذا كله غريب جد غريب. ترى أين ذهب تمردها على أوضاع المجتمع المتخلف المتوحش، وقدرتها على فرض إرادتها دون مبالاة بأحد من أهلها أو من غير أهلها؟
لقد رأينا أنها كانت تنفذ ما تريد دائما دون أن يستطيع أهلها معها شيئا، فرفضت الزواج بابن خالها، واقترنت بالرجل الذى أرادت، وأكملت تعليمها، وتوظفت، ثم حصلت على الطلاق من زوجها، الذى لم تفكر مجرد تفكير فى أن ترينا ولو عيبا واحدا من عيوبه التى دفعتها إلى النفور منه، قاصرة كلامها على أنها لم تكن تحبه، رغم ما أكدته من أن كثيرا من النساء يسعدن بزواجهن غير القائم على الحب. والسؤال الآن هو: ترى أين كان هذا النفور من الزوج طوال كل هاتيك الأعوام؟ وكيف صبرت عليه؟ ثم كيف، وهى العنيدة المتمردة التى لا تعرف التراجع أمام أعتى العقبات، تترك نفسها لأهلها يصنعون بها ما يشاؤون ويجرونها جرا للأفاقين المشعبذين دون أن تفتح فمها بكلمة اعتراض؟ أما تفسيرى لهذا فهو أن البطلة تريد أن ترسل رسالة إلى من يهمهم سماع تلك الأمور، وأن المرأة فى المجتمعات المسلمة البطرياركية العفنة المتخلفة الوحشية تعانى الأمرين وتعيش فى مناخ خانق لا يليق بالبشر. ولا أدرى
¥