فى الرواية.
كذلك نسيت البطلة ما قالته قبل سطور قليلة من أن إحدى النسوة، عقب مقتل الخال، قد جمعت أطفال الأسرة الصغار، ومعهم بطلتنا، فى غرفة أحكمت إغلاقها عليهم من الخارج بحيث لا يستطيع أى منهم أن يغادرها، فتقول عقب هذا إنها ذهبت إلى بيت خالها ورأت النسوة المتشحات بالسواد متجمهرات هناك، فكان عليها أن تخوض هذه الكتل البشرية إلى قلب الدار. أما كيف خرجت من الغرفة المغلقة عليها وعلى أطفال الأسرة من الخارج فالله أعلم. وأما كيف لم يثر ظهورها وسط النسوة اللاتى حبستها إحداهن فى الغرفة المذكورة دهشتهن فالله أيضا أعلم.
ثم عندنا جدتها، التى تقول هى نفسها عنها إن أولادها لم يكونوا يشترون لها أو لابنتها (أم البطلة) جلبابا. هذه الجدة تفاجئنا بعد موت ابنها، خال البطلة، بارتدائها عباءة وطرحة محترمتين، ويعالجها أولادها القساة القلب الذين بخلوا عليها بجلباب، مجرد جلباب، عند أكابر الأطباء. ليس ذلك فقط، بل إن تلك الجدة التى كان أولادها لا يتورعون عن ضربها، كما تخبرنا البطلة، ولا يحترمونها ولا تستطيع أن تفتح فمها بكلمة أمامهم أو تقول لهم: ثلث الثلاثة كم؟ هذه الجدة تجمع أولادها هؤلاء قبيل موتها وتأمرهم بأن يزوجوا الحفيدة الفلانية للحفيد الفلانى، وتصدع الأسرة بالأمر وتعمل على تنفيذه، ويتقدم لخطبة بطلتنا ابن خالها الذى عينته جدتها لها. ثم إن البطلة، كما سنعرف لاحقا، سوف ترفض ابن خالها لأنه لم يوافق على أن تكمل تعليمها بعد الزواج كما أصرت، ويكون لها ما أرادت. ومع هذا لن تسكت ندابتنا، بل ستظل فى عويل ولطم وشكوى من ظلم الرجال للنساء، وإجحاف الرجال بحقوق النساء، وعجز النساء أمام الرجال الظلمة، وخوف النساء الملازم لهن من الرجال المستبدين قساة القلوب.
وهنا تحضرنى القصة التالية الطريقة، فقد كان عندنا فى قريبتنا أخوان مختلفا الطباع، وكانا على شىء من التعليم، وكان موظفين بسيطين فى المركز، ولهما منزلٌ شركٌ ورثاه عن أبيهما: فأما الأصغر فكان عفيا قويا شرسا، وأما الأكبر فلم يكن له فى المعارك والخناقات. وذات مغربية استفرد الأصغر بالأكبر داخل الدار، واشتبك معه فلَبَّبَه وبَرَك فوقه، وهات يا ضرب من النوع الذى يحبه قلبك، وهو يصرخ وينادى رغم ذلك: "يا خلق هوه! الحقونى يا ناس! المجرم ابن الكلب يضربنى ويريد أن يقتلنى! ". ويسرع رجال الحى محاولين فتح الباب لإنقاذ الشرس القبيح وتخليصه من براثن الطيب الغلبان، فلا يستطيعون فتحه لأن الشيطان كان قد أحكم غلقه حتى لا يمكن أحدا الدخولُ إليهما ومعرفة الظالم من المظلوم. ولما قابلته ثانى يوم، وكان لى عليه دالَّة، أخذ يروى لى القصة وهو يضحك ويصف لى فى حبور إبليسى كيف أشبع أخاه لطما ولكما ورفسا وعضا وعلمه أصول الأدب حتى لا يفكر أن يطالبه بحقه فى البيت بعد ذلك أبدا. بطلتنا، أقولها وأنا لا أتمالك من الضحك، تذكِّرنى بهذا الأخ الشرس!
وفى فصل الرواية الأول، الذى ما زلنا فيه، تقول البطلة إنها، لكونها أنثى، كان كل شىء فيها يشكل عيبا عند أهلها والناس من حولها بمعنى أنها ينبغى ألا يراها أحد أو ترى أحدا: فشكلها عيب، ورؤيتها عيب ... إلخ، وكأنها لم تكن تخرج من بيتهم أو تذهب إلى المدرسة فيراها الناس فى الشوارع ذاهبة آيبة، ويراها المدرسون فى الفصل وفناء المدرسة، وكأن أمها (وأمها طبعا أنثى) لم تشنف آذاننا بأنها كانت تذهب دائما للغيط وتجمع روث البهائم من الطرقات لتصنع منها أقراص الجلة وهى حافية ملهلهة الثياب (رغم أنها سليلة بيت العُمَد)، وهو ما يعنى أن الناس كانت تراها ولا تشكل أى عيب!
وأخيرا، وبعد كل ذلك السرحان والتوهان، تتذكر البطلة بعد عشرين صفحة كاملة أن هناك حبيبا لها يجلس قبالتها لا تبالى به أو تسأل عن صحته، فتُسْمِعُنا صوته وهو يقول لها، لا "وَحِّدُوووه! " كما ينبغى أن تكون حبكة القافية، بل "إيه؟ فيه إيه؟ رحتى فين؟ ". إن هذا كله يناقض ما نعرفه عن الطبيعة البشرية، فليس من المعقول أن تترك فتاة أو امرأة حبيبها الجالس أمامها فى هذا الجو الرومانسى، والذى ضاع عمرها كله فى انتظار تشريفه، وتروح فى ذكريات الجلة والحفاء وتنساه تماما. ولنفترض أن فتاة فى مثل هذا الموقف قد سرحت رغم ذلك كله فلا يمكن أن يكون سرحانها فى الجلة وأقراصها، فضلا عن أن السرحان لا يمكن أن يستغرق
¥