تحب وتُحَبّ؟ بل هل يمكن أن يصدق أحد أن مثل تلك الحرية مفتقَدة فى مجتمعنا بعد كل الحريات التى حصلت عليها المرأة وكل التطورات التى اعترت المجتمع؟ وهل هناك من يجهل الحب أو الاستمتاع بالحب بعد كل تلك الأفلام والمسلسلات والروايات والمسرحيات التى تتهاطل علينا من المذياع والتلفاز، علاوة على اختلاط الشبان والشابات فى الشوارع وأماكن العمل والمدارس والجامعات؟ الحقيقة أن ما تقوله البطلة لا محل له من الإعراب ولا حتى من البناء، إن كان للبناء محل.
والطريف أن البطلة فجأة يتراءى لها، وهى جالسة فى القهوشية قبالة حبيبها، أن تتحدث عن جدتها فتقول دون سبب مفهوم إنها كانت طوال عمرها تعيش على الخوف، وإنها قد ورَّثت هذا الخوف لأمها، التى ورَّثته بدورها لها هى. عظيم! فما هو ذلك الخوف الذى ورثته الجدة لابنتها التى هى أم البطلة فورثته هذه للبطلة نفسها؟ المنتظر أن يكون الخوف الوراثى فى الأسرة خوفا خاصا بهذه الأسرة، لكننا نفاجأ بأنه الخوف الذى يخافه كل الناس، فكل الناس مثلا تخاف الموت، وكذلك ما بعد الموت إن كانوا ممن يؤمنون بالآخرة. وهذا أحد الخوفين اللذين تتحدث عنهما البطلة فى هذا السياق. وهو، كما يرى القارئ، لا علاقة له بالوراثة الأسرية التى تشير إليها. كذلك تتحدث بطلتنا عن بكاء الأطفال حين يولدون بوصفه ثانى الخوفين اللذين ورثتهما البطلة عن أمها، التى ورثتهما عن جدتها.
ومعروف أن بكاء الطفل لا علاقة له بالخوف من قريب أو من بعيد لأن الطفل لا يدرك ولا يعقل ولا يفهم شيئا حتى يقال إنه خائف أو غير خائف. أما قول ابن الرومى فى بيته التالى:
لِمَا تُؤْذِن الدنيا به من صُرُوفها يكون بكاءُ الطفل ساعةَ يُولَدُ
فإنه محض كلام شعرى لا حقيقة له فى الواقع. وأيا ما يكن الأمر هنا فبكاء الولادة أمر عام يعرفه الأطفال جميعا ولا يقتصر على البطلة وأم البطلة وجدة البطلة حين كن أطفالا، فنحن كلنا نبكى ساعة الميلاد. وما دامت المسألة ثرثرة فى ثرثرة فلا مانع أن آخذ حقى منها فأقول إننى، لمعرفتى أن كل الأطفال يبكون ساعة يولدون، قد استغربت حين رأيت ابنى، وقت نزوله من بطن أمه فى مستشفى جون رادكليف بأكسفورد عام 1979م، لا يبكى، ورأيت الممرضة مشغولة بالأم التى كانت مرهقة تماما، وخشيتُ أن يكون الولد قد مات أو يعانى من مشاكل فى الجهاز التننفسى يمكن أن تقضى عليه، فلفتُّ نظر الممرضة إلى الأمر، فما كان منها إلا أن أمسكت الولد النازل لتوه من بطن أمه من رجليه، والدم يغطيه، جاعلة رأسه إلى الأسفل وهى تناشدنى ألا أقلق، ثم خبطته على ظهره خبطة خفيفة، فاستهل صارخا. وعلاء الدين ولد لا بنت، ولا علاقة له بأسرة البطلة، ولم يرث شيئا من مخاوف أمها التى ورثتها من قبل عن جدتها. فما قول بطلة روايتنا فى هذه المسألة؟
ثم إن المسألة لا تنتهى هنا، وهو ليس بالقليل، إذ إن البطلة المغرمة بإفساد فرحة العمر التى كانت تنتظرها منذ سنوات وسنوات بكل ما لديها من شوق وتلهف، وهى فرحة اللقاء بحبيبها الذى كانت تراه فى الأحلام قبل أن تلقاه فى الواقع، تستمر فى ترك حبيبها الجالس أمامها وتروح فى سلسة طويلة متتابعة من الذكريات تحدث فيها أمها وتحدثها أمها وتحكى لها عن الجلّة التى كانت تلمها الأم من الشوارع وهى حافية رغم أنها بنت عُمَدٍ كما تقول، وغير ذلك من الموضوعات التى لا تكاد تنتهى. كل ذلك، والحبيب جالس أمامها لا ندرى ماذا يفعل. وإن الإنسان ليستاءل محقا: أحُبِكَتْ فلم يَحْلُ للبطلة استرجاع ذكريات الجِلّة إلا الآن وفى حضرة الحبيب؟
ومن بين ذكريات البطلة التى تترك فيها حبيبها جالسا أمامها كخيال المقثأة لا تبالى به رغم ما تزعمه من أنها كانت تنتظر لقاءه منذ أعوام وأعوام بكل الشوق واللهفة التى فى قلبها بسبب الحرمان العاطفى الطويل: ذكرى مقتل خالها فى عرس أحد شبان الأسرة جراء طلق نارى طائش مما يُضْرَب فى الأفراح الريفية. وفى هذه الذكرى تطالعنا شخصية للبطلة لا يمكن أن تقنع أحدا، إذ إن بنت عشر السنوات تصف الحقول والطرق والبشر وتحلل الأحداث وتفلسفها كما يفعل المفكرون الكبار مرددةً مفاهيم لا يمكن أبدا أن تخطر لبنت صغيرة مثلها. إن البطلة ساردة الرواية لا تفرق بينها وقد نضجت وبينها هى نفسها حين كانت طفلة صغيرة لا يمكنها التفكير بتلك الطريقة. وهذا عيب كبير
¥