ملتقي اهل اللغه (صفحة 4449)

تجرأت أحلامى الصغرى على التمرد ضدى لتخرج منى، رغما عنى، لتعلن عن نفسها وتطالب بحقها فى الوجود، وبحقى فى الحياة؟ كيف تجرأت أحلامى على صمتى وخوفى؟ وكيف سمحت لها بهذا التمرد العفوى المحفوف بالمخاطر والغارق فى بحور الخوف؟ قبلك عشت مثل أرض شققها الجفاف فأصبحت بلا خير أو زرع أو أحلام. اليوم تحلق معى الأمنيات فى فضاء الكون وتفرد ذراعيها بالحب للحياة. تزرعنى أرضا خصبة، وتبدرنى مثل أحلام تناثرت فوق الكرة الأرضية، ثم تغرسنى فى سماء الدنيا كأبهى ألوان الطيف، وتنشدنى كأعذب الأغنيات، وما كنت قبلك إلا بضع أوراق من لحم، وأحبار من دم وُضِعَتْ فى شهادة ميلاد كوثيقة رسمية لوجودى وبطاقة تحقيق هوية".

والآن انظر إلى الصور والتعابير العقلية الباردة التى تصطنعها البطلة اصطناعا وتذكرنا بالعملة الورقية التى لا يحميها غطاء من الذهب فتتضخم فى الجيوب دون أن تكون قادرة على شراء شىء ذى قيمة. ومن هنا يمكنك، عزيزى القارئ، أن تفهم السر فى تلك المبالغات الثقيلة الخانقة. وانظر مرة أخرى تر بكل وضوح كيف تتناقض البطلة فى كلامها من جملة لأخرى، فتصف حبيبها بأنه ملأ حياتها نورا وأمانا لتستدير فى التو واللحظة لتقول عنه إنه مارد فى القسوة والإيلام، علاوة على أن هذا هو أول لقاء لها به، فمن أين أتتها قسوته وإيلامه؟ وبالمثل نراها تصف فرحها بأنه فرح استثنائى، ومتعتها بأنها متعة استثنائية، لتنقلب على عقبيها فى الحال قائلة إن حالتها حالة من الألم والنشوة، ومن السعادة والشجن، مع كلام ضخم فخم، لكن بلا رصيد من المشاعر الحقيقية، عن الأحلام التى تناثرت فوق الكرة الأرضية وألوان الطيف التى انغرست فى سماء الدنيا. أما تصويرها لنفسها عقب هذا الكلام بأنها امرأة يسكنها الخوف ويشلها الخوف ويقتلها الخوف فهو كلام فى الهجايص، إذ سوف تقول لنا بعظمة لسانها إنها كثيرا ما اشتركت فى المظاهرات وكسرت كلام أبيها ونفذت كل ما تريد رغم أنف الجميع. ودعك من حديثها بعد ذلك عن تمردها وجنونها وجنوحها، فهو يتناقض تناقضا أبلق مع دعواها التى أقامت عليها روايتها كلها بأنها "امرأة خائفة". ودعك كذلك من كلامها عن النبضة التى لا ندرى هل صدرت من القلب إلى المخ كما تقول أم هل صدرت من المخ إلى خلايا الجسم كما يفهم من كلامها عقب هذا، وهل الأوردة هى التى تحمل الدماء إلى الخلايا أم هل هى الشرايين، فمن الجلىّ أن البطلة تهرف بما لا تعرف. والواقع أن هذا الكلام أشبه ما يكون بكلام المراهقين والمراهقات حين يمسكون القلم ويريدون أن يدخلوا عالم الكتابة فيقولون كلاما طنانا طائشا منفلتا ظنا منهم أن الأدب هو هكذا: مبالغات مجنحة بلا ضابط، وصور مصطنعة باردة، ونهنهات رومانسية فارغة، وخيالات طائشة مهزوزة.

وبطلتنا لا تكف عن الثرثرة حول حرمانها من تحقيق أحلامها ولا عن الولولة بسبب فقدانها الحرية فى أن تحب وأن تلتقى بحبيبها كما تقول، فى الوقت الذى يجلس أمامها حبيبها وتطارحه الغرام الملتهب دون أن تخاف أو تحسب حسابا لأى أحد أو أى شىء، وأمامها على مائدة القَهْوَشِيّة (الكافتريا) زهرية مملوءة بأوراق الورد القرمزية، وفى جنبات المكان ترفرف موسيقى زامفير. بل كانت تجرى معه أحيانا فى الشارع محبورة غير ملقية بالا إلى الناس ولا أنه من الممكن أن يراها أحد من أهلها أو معارفها أو زوجته هو أو أولاده. فهل هذا هو العجز والحرمان من الحرية والحب الذى تملأ به الرواية ثرثرة وتفيهقا؟ ثم إنها، كما تصف نفسها بنفسها، مثقفة ثقافة عالية ومناضلة سياسية تقود المظاهرات وتدخل السجن دفاعا عن الحرية والكرامة البشرية، وتمارس الصحافة بكل ثقة واقتدار. وفوق ذلك ها هى ذى أمامنا تستمع إلى مقطوعة موسيقية أجنبية وتدرك بكل بساطة أنها موسيقى جورجى زامفير عازف الفلوت الرومانى. ويا ليت الأمر وقف عند الموسيقى الأجنبية فحسب، بل هناك أيضا الرقص الغربى الذى تصرح بأنها تريد أن تنهض من مجلسها وتأخذ حبيبها فى أحضانها ويذهبا فى رقصة هادئة من رقصاته، أو رقصة "سْلُو" حسب رطانتها. ليس هذا فحسب، إذ تخبرنا فى الفصل الرابع أنها هى التى بادرت بالاتصال بحبيبها والتقت به عدة مرات فى القهوشية المذكورة حيث موسيقى زامفير وطبق ورق الورد القرمزى. فهل يمكن أن يدخل عقل عاقل أن فتاة أو امرأة كهذه تفتقد الحرية فى أن

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015