ملتقي اهل اللغه (صفحة 4182)

يسمعون هذه الكلمة تتردد على ألسنة أعجمية أو ترطن بها ألسنة عامية لا عهد لها بالفصحى وأهلها.

وأدركت لتوّي أن ما سقته من حديث المعاجم في تلك العجالة لم يُجْدِ عندهم نفعاً، ولم يجدْ لديهم مقنعاً، في أصل كلمة غبر على الناس زمان يعتقدون فيه أنها أعجمية تسرّبت إلينا من اللغة الفرنسية (Papa) أو من غيرها، بل لقد نادى بعض الخواص بإلغاء تعليمها لأطفالنا في مراحل تعليمهم الأولى لما تحمله من أوضار العجمة!

وإن تعجب فعجب أمرُ من ينكر وجود هذه الكلمة في المعاجم العربية، ثم حين يتبدّى له على وجه اليقين أنها موجودة يعجزه استخراجها، لأنه لا يعلم من أي باب تخرج أو تحت أي أصل تندرج!. مع أن الأمر في غاية السهولة واليسر، ولو أنه فتح الجزء الأول من معجم "اللسان" لقرأ في صفحاته الأولى (مادة بأبأ) الكلام التالي:

(... وبأبأتُه أيضاً، وبأبأتُ به قلت له: بابا. وقالوا: بأبأ الصبيَّ أبوه، إذا قال له: بابا. وبأبأه الصبي إذا قال له بابا. وقال الفراء: بأبات بالصبي بئباءً إذا قلت له: بأبي. قال ابن جني: سألت أبا عليّ فقلت له: بأباتُ الصبي بأبأةً إذا قلت له بابا، فما مثال البأبأةِ عندك الآن؟ ....). [لسان العرب (بأبأ)].

وتكاد معاجمنا العربية القديمة والحديثة تجمع على هذا الذي نقله صاحب اللسان، فقد أورد المادة بهذا المعنى كلٌّ من الفيروزآبادي في "قاموسه" والزبيدي في "تاجه"، كما جاءت في معجم متن اللغة للشيخ أحمد رضا والمعجم الوسيط [انظر مادة (بأبأ) في القاموس المحيط، وتاج العروس، ومتن اللغة، والمعجم الوسيط].

ولو ذهب الباحث ينقِّرُ في كتب اللغة وعلومها لظفر بكثرةٍ كاثرة من النصوص تثبت هذه اللفظة بمعناها الذي تعارف عليه الناس اليوم، فقد جاء في "نوادر اللغة" لأبي زيد الأنصاري (119 - 215هـ وهو المعني بقول سيبويه في الكتاب: حدثني الثقة):

(وقال العنبريون: بأبأ الصبي أباه، وبأبأه أبوه: إذا قال له: يا بابا، ومأمأ الصبي أمه فهو يمأمئها ويبأبئُ أباه بأبأةً ومأمأةً. ويقال: دأدأتُ الصبي دأدأةً إذا سكته تسكيتاً). [نوادر اللغة لأبي زيد الأنصاري ص 254].

وجاء في "رسالة الاشتقاق" لابن السراج (316هـ):

(ومنه أن تجيء اللفظة يراد بها الحكاية، فهذا الضرب لا يجوز أن يكون مشتقًّا، وذلك نحو: بأبأ الصبيَّ إذا قال له: يا بابا، وكذلك غاق وما أشبهه) [رسالة الاشتقاق لابن السراج ص 31].

وفي "كتاب الأفعال" للسرقسطي (توفي بعد المئة الرابعة للهجرة):

(بأبأ: قال أبو عثمان: قال أبو زيد: بأبأ الصبي أباه وبأبأه أبوه: إذا قال له: بابا) [كتاب الأفعال للسرقسطي: 4/ 133].

ولا أخفي على القارئ الكريم أن هذه النقول والنصوص، على كثرتها وتنوّعِها وقطعيةِ دلالاتها، لم تكن لتشفي غلّة الباحث الصدي، فقد أنكر عليَّ بعض الفضلاء كلَّ ما سقته من هذه النقول، وطالبوني بنص عربي قديم وردت فيه لفظة "بابا" على نحو صريح لا لبس فيه ولا مظنة تحريف أو تصحيف، وأغراني البحث فرحت أنقِّب وأنقِّر في المعاجم الأمات وموسوعات النحو والصرف واللغة.

ولكن هيهات! لقد كنت كمن يعمل في غير مَعْمَل، أو ينفخُ في غير فحم، فما في هذه الكتب، على سَعتها وبسط الكلام فيها، شاهدٌ واحد على ما أنا بسبيله.

وربّ رمية من غير رام، فقد عثرت على ضالتي خلال مطالعة عرضت لي في كتاب "عبقرية اللغة العربية" للدكتور عمر فروخ، وكانت أبياتاً رقيقة للشاعر العربي الغَزِل العباس بن الأحنف (192هـ) جاء فيها:

وكانت جارةً للحُو ... رِ في الفردوس أحقابا

فأمست وهي في الدنيا ... وما تألفُ أترابا

لها لُعَبٌ مصفَّفَةٌ ... تُلقبهن ألقابا

تنادي كلّما ريعت ... من الغرّة يا بابا

[جاءت في الأصل: (من العزة) انظر عبقرية اللغة العربية ص 219. والتصحيح من ديوان العباس بن الأحنف طبعة دار الكتب المصرية شرح وتحقيق عاتكة الخزرجي حيث وردت القصيدة ص 16 - 18].

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015