وماكان أشدَّ فرحي بأبيات ابن الأحنف هذه، لقد تأبَّطتها وانطلقت إلى شيخ العربية في بلاد الشام الأٍستاذ سعيد الأفغاني رحمه الله، ولما التأم المجلس سألته عن كلمة "بابا" وأصالتها في العربية، فبادر الأستاذ يوسف الصيداوي -وكان من رواد المجلس عليه رحمة الله- إلى إثبات عربيتها وتوثيقها محتجًّا بذكر الجاحظ لها في "البيان والتبيين"، غير أن الأستاذ الأفغاني عقب بأن الجاحظ ليس بحجة، عند ذلك أنشدته أبيات ابن الأحنف هذه، ونسبتها إلى صاحبها العباس بن الأحنف، فقال الأستاذ سعيد الأفغاني: أما هذا فنعم!
ومع كل هذا الذي قدمت فلستُ أزعم أن هذه اللفظة جذر عربيّ خصب أو مادة عربية قابلة للاشتقاق والتوليد، وإنما هي اسم من أسماء الأصوات يُروى على سبيل الحكاية. وأسماء الأصوات، كما هو معلوم، جانب من جوانب اللغة تشترك فيه مع غيرها من اللغات، بل لقد عده بعض اللسانيين -في علم اللسانيات الحديث والقديم- أصل اللغة الإنسانية، منه استمدت ألفاظها، وعن محاكاة الأصوات الطبيعية كدويِّ الريح وخرير المياه نشأت كلماتها. وهي إحدى النظريات المشهورة في نشأة اللغات، وبها أخذ ابن جني في بعض أقواله [انظر الخصائص 1/ 46 - 47] واللغوي الألماني هردر كما جاء في المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي للدكتور رمضان عبد التواب ص 112. كما أخذ بها من المتأخرين آدم سميث (متن اللغة /18).
دع ذا وتدبَّر معي بنية لفظة "بابا" تجدها تعتمد على حرف الباء، وهو حرف شفوي سهل النطق طيّع المخرج، ولذا سارع الطفل إلى ترديده والمَذْلِ به، فكان أول الحروف تردداً بين شفتيه وكذا حرف الميم ...
على أن ما يدور في فلك بحثنا هذا هو التأكيد على أن أسلافنا العرب الفصحاء الذين عنهم أخذت اللغة حاكوا أطفالهم فيما تردد بين شفاههم كما تؤكد معظم النقول السابقة، وما الغرابة في ذلك؟ ألم يحاكوا ماهو أقلُّ من الطفل منزلةً وفصاحةً، وهي الأنعام والسوائم على اختلاف أنواعها؟ بل فقد حاكوا صوت الغراب فقالوا: غاق، ودعوا الحمار للشرب فقالوا: سَأْ. ومن أمثلتهم: (قفِ الحمار على الردهة ولا تقل له سَأْ) [جمهرة اللغة 3/ 293. والرواية في مجمع الأمثال 2/ 94 (قرِّب الحمار من الردهة ....) يضرب للرجل يعلم ما يصنع]، وزجروا البغل فقالوا: عَدَسْ، وعليه شاهد النحاة المشهور:
عَدَسْ، ما لعبَّادٍ عليك إمارةٌ ... أمنتِ وهذا تحملينَ طليقُ
[انظر في أسماء الأصوات: شرح المفصل 4/ 15 وشرح الكافية 2/ 79 وجامع الدروس العربية 1/ 192 والنحو الوافي].
بل لقد تعدَّوا ذلك إلى تسمية صاحب الصوت باسم صوته المنسوب إليه، فسمَّوا الغراب غاقِ، والبغلَ عَدَسْ، وعلى ذلك قول الشاعر:
إذا حملت بدني على عدسْ
على الذي بين الحمار والفرسْ
فلا أبالي من غزا ومن جلس
[جامع الدروس العربية 1/ 163، وشرح المفصل 4/ 79]، وزادوا فألحقوا أسماء الأصوات بأشرف الكلمات أي بالأسماء ليكون أدل على دخولها في ظاهر أقسام الكلمات فصرفوها تصريف الأسماء [انظر شرح الكافية 2/ 81].
ولعل خير ما أختم به الكلام طائفة من الأبيات لشعراء قدامى ومحدثين، كان لكلمة "بابا" في شعرهم نصيب.
أما أولهم فهو ابن الوردي (691 - 749هـ)، عمر بن مظفر، صاحب اللامية المشهورة، حيث يقول:
أيا دادا حكت صدغاك واوا ... فما أحلى ثناياك العذابا
لقد صدتك أمك عن رضانا ... فيا ماما دعي للصلح بابا
وأما ثانيهم فهو أحمد تقي الدين (1888 - 1935م) الشاعر القاضي، حيث يقول:
هو طفل فوق السرير صغيرٌ ... ذابل الطرف يسحر الآناما
وعليه من الجمال غشاء ... نسجته بنات موسى اليتامى
إنما يقظة الغرام غشته ... فرمت قلبه صريعاً غراما
تهموه بالحب وهو يتيمٌ ... أعجميٌّ يقول بابا وماما
وأما آخرهم فهو أميرهم، أحمد شوقي، حيث يقول:
هناك ألقت بالصغير للورى ... واندفعت تبكي بكاءً مفترى
تقول بابا أنا دحّا وهو كخّ ... معناها بابا لي وحدي ما طبخْ
فقل لمن يجهل خطب الآنيهْ ... قد فطر الطفل على الأنانيهْ) انتهى.
ـ[صالح العَمْري]ــــــــ[06 - 03 - 2011, 04:01 م]ـ
بارك الله في كل من شارك، وقد استقصى القوم في هذه المسألة، فما عندنا شيء نزيده إلا مسألة صغيرة.
ذكروا لـ "بأبأ" فيما نقلتم من النصوص مصدرين: بأبأة وبئباء، وهذان البناءان هما المعنيان بقول ابن مالك رحمه الله:
فعلالٌ او فعللة لـ "فعللا" ** واجعل مقيسا ثانيا لا أولا
وقد جاء في رجز لرؤبة: "البئباب"، لكنه سهل الهمزة فجعله "البيباب"، قال يصف امرأة نائحة:
عِيلت بحِبٍّ من أعزِّ الأحباب ** فَهْيَ تُرثّي حَزَنًا بالبِيباب
أي تقول: يا بأبي.
والله أعلم