ملتقي اهل اللغه (صفحة 4170)

تصدّى لهم أهل التوقيف فقالوا:لو أن اللغة كانت اصطلاحاً لاحتاج المصطلحون إلى لغة يعبِّرون بها (8)،ولابدَّ من التوقيف في أصل اللغة الواحدة لاستحالة وقوع الاصطلاح على أوّل اللغات من غير معرفة المصطلحين بعين ما اصطلحوا عليه.

بين أهل الاصطلاح وأهل التوقيف من علماء المسلمين ظهر فريق ثالث اتخذ موقف وسطا فقال: إن اللغة توقيفيّة،وهي بعد ذلك اصطلاحيّة في كل ما يستجدُّ من حياة البشر، حيث كانت اللغة الأُولى مكتملة (9) ولكنّها أقل عدداً في مخزون الألفاظ من لغات اليوم،لأنها كانت تتكوّن من كلمات تمثّل جذور اللغات الحاليّة،ولمّا احتاج الإنسان إلى مزيد من الكلمات لتسمية الموضوعات والمكتشفات والأحوال الجديدة انبثق من تلك الجذور ما احتاج إليه من الكلام.

ثالثا: التقليد والمحاكاة

قال بعض العلماء إن أصل اللغات هو أصوات مسموعة سمعها الإنسان الأوّل وأخذ بتقليدها، كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء ونقيق الضفدع ونباح الكلب. صاحب هذا الرأي هو العلم العربي ابن جنّي (17) الذي قال: وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبَّل. هذه الأصوات سارت في الرقِّي والتقدُّم شيئا فشيئا تبعاً لرقِّي وسمو العمليات العقليّة الإنسانيّة والتقدُّم الحضاري. وقد أيّد هذه النظريّة العالم اللغوي الأمريكي وتني، ويرى الدكتور علي عبد الواحد (10) إن هذه النظرية الأقرب إلى المعقول وأكثرها اتفاقاً مع طبيعة

الأمور وسنن النشوء والارتقاء. ويقول في ذلك الدكتور إبراهيم أنيس (11): " نمت قوّة السمع عند الإنسان قبل قوّة النّطق، فسمع الأصوات الطبيعيّة حوله ولكنَّه لم يقلِّدها في هذه المرحلة لأن هذا يفترض له حينئذ قدرة عقليّة لم يستطع المحدثون أن يتصوَّروها للإنسان في هذه المرحلة ".

مع أن ابن جنِّي صاحب نظريّة الأصوات المسموعة إلا أنه لم يحسم الأمر في نشأة اللغة بشكل واضح، فهو تارة يقول أن اللغة تواضع واصطلاح، وتارة أخرى يميل إلى التّوقيف (12) " فلا بدّ أن يكون وقع في أوَّل الأمر بعضها ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه لحضور الداعي إليه فيزيد فيها شيئاً فشيئا،إلا أنه على قياس ما كان سبق منها في حروفه وتأليف إعرابه،وليس أحد من العرب الفصحاء إلا يقول: إنه يحكي كلام أبيه وسلفه يتوارثونه عن أوَّل وتابع عن مُتبّع ".

من الألفاظ الدالّة على الصوت؛القهقهة والنحنحة والدندنة والشخير.ومن صوت الأشياء؛القرقرة، وهو صوت الآنية إذا خرج منها الماء،والشَّخب،وهو صوت اللبن عند حلبه.ومن الأصوات الدّالة على الأفعال؛القطف والقضم والقطم والكسر.

يرى المعترضون على هذه النظرية أنها لا تشمل إلا قدر ضئيل من الكلمات التي لها علاقة في الصوت.

رابعاً: النظريّات الحديثة

لم يتوقّف البحث في أصل اللغة ونشأتها، فظهرت في القرن التاسع عشر الميلاد نظريات جديدة منها:

1 ــ الغريزة الكلاميّة:

يرى أصحاب هذه النظرية أن أصل اللغة يرجع إلى غريزة خاصّة تحمل الإنسان على التعبير عن الانفعالات أو الأشياء بكلمة خاصّة وبصورة عفويّة. من أصحاب هذه النظريّة العالم الفرنسي فندريس والألماني مكس مولر والفرنسي رينان.

2 ــ يرى بعض العلماء أن اللغة بدأت بالشهقات أو التأوّهات (13) التي تصدر عن الإنسان في حالة الحزن أو الفرح أو الدهشة،مستندين على نظريّة دارون التي تقول بتطوّر الكائنات الحيّة.بينما يرى المعترضون أن هذه الأصوات تتم بصورة فجائيّة بعيدة عن الكلام.

3 ــ ويرجِع بعضهم نشأة اللغة كانت من خلال عمل جماعي للأفراد أثناء قيامهم بعمل شاق تعاونوا على أدائه،فهم يرون أن الإنسان يجد الراحة أثناء قيامه بعمل شاق إذا تنفّس أو تنهّد من الأعماق،وربما تصدر عنهم أصوات أثناء العمل ترتبط بالعمل نفسه وتصبح فيما بعد دالّة عليه فينطقون بها كلّما تكرر هذا العمل.

4 ــ النظريّة الحديثة:

درس أصحاب هذه النظريّة مختلف النظريّات السابقة، فدوّنوا الملاحظات والخبرات والتجارب وأقاموا نظريّتهم الجديدة وقسّموها إلى ثلاثة أُسس هي؛ دراسة مراحل نمو اللغة عند الطفل،ودراسة اللغة في الأُمم البدائيّة ودراسة تاريخيّة للتطوّر اللغوي.

نلاحظ أن النظريّات الثلاث الأوُلى تقوم على طريقة الاستنباط،بينما تقوم النظرية الحديثة على الطريقة الاستقرائيّة.

خلاصة:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015