ملتقي اهل اللغه (صفحة 3807)

وأظنُّه قد باتَ بيِّنًا صريحًا أنَّهما لم يريدا بذكرِ القَطع أن يجعلا المقطوعَ، أو المقطَّع مرادِفًا للمجرَّم. وهذا كافٍ في إبطالِ الدعوى بأنه قد يقالُ: (جرَّمَه تجريمًا، فهو مجرَّمٌ) بمعنَى (قطَّعَه تقطيعًا، فهو مقطَّعٌ)، إذْ كانَ ردُّه إلى معنَى القَطْع إنَّما هو احتيالٌ منهما لوصلِه بالجَرْمِ الذي هو بهذا المعنَى، وجعلِه، وإيّاه في قرَنٍ واحدٍ، ومثابةٍ جامِعةٍ، فِعْلَ ابنِ فارسٍ في (مقاييسِه). ولو أنَّك فهِمتَ من كلامِهما أنَّهما يريدَانِ تفسيرَه بذلكَ، للزِمك أن تطرُدَ هذا في معجمِ ابن فارسٍ مثَلاً. وأنا أمثِّلُ لكَ بهذا الجذر من كتابِه فحسبُ لأدُلَّ على فرقِ ما بينَ بيانِ أصل اشتقاقِ اللفظِ، وبين تفسيرِه.

قالَ: (فالجِيمُ أصلٌ واحِدٌ يرجِع إليه الفُروع. فالجِرمُ القَطْع)، ثمَّ ذكرَ أنَّ الجُرمَ، وهو الذنبُ، من القَطعِ، والجِرمَ، وهو الجَسَدُ، من القَطعِ أيضًا، وذكرَ توجيهَ ذلك. فهل تراه يسوغُ لك أن تقولَ: (عليكَ بجُرم الصوف، أو جِرمِه) تريدُ: جَرْمَه، أي: قطعَه، بحجّة أن ابن فارسٍ ذكرَ أنَّ الجُرمَ، والجِرمَ من القَطع كما أجزتَ أن يكونَ (المجرَّم) بمعنى (المقطوعِ) بمثلِ هذا الكلام؟

ولهذا نظائرُ كثيرةٌ جِدًّا في كتابِ ابنِ فارسٍ، وغيرِه.

وتأويلُ ذلكَ أنَّ العربَ قد تضعُ الأصولَ، ثمَّ تفرِّعُ عليها الفروعَ، غيرَ أنها تؤثِرُ الفَرعَ بضروبٍ من التصرُّف في الأبنيةِ تحرِمُه الأصلَ. وهذا بابٌ غريبٌ لم أرَ أحدًا من العلَماءِ أتَى عليه، ومارسَه.

وقد وضعتُ بعضَ قواعِدِه. وفي هذه الأحاديثِ طرفٌ من ذلك:

http://www.ahlalloghah.com/showpost.php?p=8835&postcount=14

http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=3531

فهذا لو وافقنَا الأنباريَّ، والأزهريَّ، وابنَ فارسٍ، وغيرَهم على القولِ بأنَّ (المجرَّم) راجِعٌ إلى معنَى القَطْع.

والذي أذهبُ إليهِ أن هذه الكلِمةَ مشتقَّةٌ من أصلٍ غيرِ هذا الأصلِ، وأنها من كلمةِ (الجِرم). وهو الجَسَد. وذلكَ أنَّهم يقولون: (فلانٌ جَريمٌ) إذا كانَ عظيمَ الجِرمِ، تامَّ الخَلْقِ. ثمَّ شبَّهوا بذلك التامَّ من الأزمنةِ، فقالُوا: (حولٌ جريمٌ) أي: تامٌّ كامِلٌ، على سبيلِ المجازِ. وهذا اللَّفظُ لم يرِِد -في ما أعلم- في معجماتِ اللغة في موضع الجذر نفسِه، وإنَّما أوردَه الأزهريُّ عن أبي العبَّاسِ ثعلبٍ (ت 291 هـ) في (التهذيب) في غيرِ بابِه، وذلك في بابِ (كرت)، وفاتَه أن يذكرَه في بابِه بابِ (جرم). وهو لفظٌ مُهِمٌّ، إذْ يمثِّلُ الواسِطةَ بينَ الأصلِ، والفَرعِ، ويدُلُّنا على تاريخِ هذا المعنَى، وكيفَ عرَضَ له ما عرَضَ من التصرُّف، والتدبير.

فلمَّا استعمَلَ العربُ لفظَ (الجريمِ) بهذا المعنى المجازِيِّ الذي ذكرتُ، واطمأنُّوا إليه، عمَدوا إلى ما يدخُلُ تحتَ هذا اللفظِ من المجازِ، فاشتقُّوا منه فقالُوا: (جرَّمَه يجرِّمه تجريمًا، فهو مُجرَّمٌ)، أي: تمَّمَه، وكمَّلَه. وقولُهم: (جرَّمنا هذه السنةَ) من ذلك. فـ (تجرَّمَ)، أي: تمَّ، وتكمَّلَ، قالَ أبو نصرٍ الجوهريُّ (ت نحو 400 هـ) في (الصحاح): (*دِمَنٌ تجرَّمَ بعد عهد أنيسِها* أي: تكمَّلَ). ومِثلُ ذلك في (القاموسِ)، وغيرِه.

وقد رأيتَ أنَّهم خصُّوا بهذا الاشتِقاقِ الأفرادَ المجازيَّةَ التي يصدُقُ عليها اللفظُ. وهو ما سمَّيتُه (التخصيصَ بالوضع). ومثَّلتُ له بكلمةِ (اللِّسان)، فإنَّها تُطلق على الجارحة المعروفة. وقد أطلقُوها على (اللغةِ) مجازًا، ثمَّ خصُّوا بعضَ أفرادِ (اللِّسان)، وهي التي بمعنَى (اللغة)، بِبناءٍ مبتدَعٍ، وهو (اللِّسْن). وراجع هذا الحديث:

http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=3531

والله أعلَم.

ـ[منصور مهران]ــــــــ[04 - 06 - 2012, 06:34 م]ـ

قال طُفَيل بن عوف الغَنَوِيّ:

عَوازِبُ لَم تَسمَع نُبوحَ مُقامَةٍ ***** وَلَم تَرَ ناراً تِمَّ حَولٍ مُجَرَّمِ

قال أبو علي في أماليه:

" عوازب: بعيدات من البيوت.

والنبوح: أصوات الناس.

والمقامة: حيث يقيم الناس.

وتمّ: تمام.

والمجرم: المُكَمَّل،

يقول: هذه الإبل عوازب لعز أربابها ترعى حيث شاءت لا تمنع ولا تخاف، فلم تسمع أصوات أهل مقامة، ولم تر ناراً سنةً تامة سوى نار بيض نعام يصيبه راعيها فيشويه أو غزال يصيده "

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015