ملتقي اهل اللغه (صفحة 3690)

والأمر الثالث: اختلاف مقاصد التأليف في كلّ كتاب من الكتب, فمنهم من ألف ليحصر ألفاظ العربية, ومنهم من ألف ليضع ما صحّ عنده رواية ودراية, إلى غير ذلك, وفي هذه التآليف خصائص أخرى, كعناية بعضها بذكر البلدان, وبعضها بذكر اللغات, وبعضها بالنباتات, وبعضها بالعقاقير والأدوية, والتفصيل في هذا يطول.

وهذا عَرْض المدارس:

• المدرسة الأولى: مدرسة التقليبات.

وهذه المدرسة تعنى بتقليب المادة الواحدة في مكان واحد, وهي على ضربين:

1. الضرب الأول: مدرسة التقليبات الصوتية.

والمقصود بها تلك المعجمات التي رتّبت الكلمات على ترتيب الحروف ترتيبًا صوتيًّا, بدءًا بأقصاها في الحلق, وانتهاءً بحروف الشفتين مع تقسيم موادِّ كلّ حرف على الأبنية بدءًا بالثنائي ثم الثلاثي, وهَلُمَّ جَرًّا, وأوّل كتاب في هذا: (العين) المنسوب للخليل بن أحمد الفراهيدي, ومن كتب هذا الضرب: (البارع) لأبي عليّ القالي, و (تهذيب اللغة) لأبي منصور الأزهري, و (المحيط) للصاحب بن عبّاد, و (والمحكم والمحيط الأعظم) لابن سيدةَ الأندلسي.

فإن جئت بكلمة (ضبع) وأردت معرفتها في هذه الكتب, فإنك تقف على أبعد حروفها مخرجًا, وهو: (العين) , ثم (الضاد) , ثم (الباء) , فستجد المادّة تحت: (ع. ض.ب) , من الثلاثي الصحيح, وستجد هناك أيضًا: عضب, بضع ... الخ.

2. الضرب الثاني: مدرسة التقليبات الألفبائية.

وهذه المدرسة لم يسر على طريقها سوى ابن دريد الأزدي في كتابه (جمهرة اللغة) , إذ رتّب كتابه ترتيبًا ألفبائيًّا, مع اتخاذه منهج تقليب المادّة في مكان واحدٍ طريقا له, واعتنائه بذكر الأبنية قبل الأحرف, بخلاف كتب الضرب الأوّل.

• المدرسة الثانية: مدرسة القافية.

وقد رتّبت هذه المدرسة ألفاظها بالنظر إلى الحرف الأخير منها, فكلمة: (أكل) تجدها في باب اللام, فصل الألف, فيكون التقديم لحرف القافية أوّلًا, ثم يجري الترتيب على الطريقة الألفبائيّة, وقد سار على هذه المدرسة عدد من الكتب, منها: (التقفية) لأبي بشر اليمان البندنيجي, و (ديوان الأدب) للفارابي -مع جعله الأبنية أساسًا-, و (تاج اللغة وصِحاح العربيّة) للجوهري, و (العُبَاب الزاخر واللُّبَاب الفاخر) للصاغاني, و (لسان العرب) لابن منظور, و (القَامُوس الْمُحِيط والقَابُوس الوَسِيط فِيما ذهب من لغة العرب شَمَاطِيط) للفيروزأبادي, و (المعيار) لميرزا الشيرازي.

• المدرسة الثالثة: المدرسة الألفبائية, أو الأبجدية, أو الهجائية, أو الأَبْتَثِيَّة, أو المُعْجَمِيّة.

وهذه التسميات تدلّ على شيء واحد, وإن خُطِّئ بَعْضٌ منها, غير أنها اشتهرت وشاعت, والغرض هنا بيان منهجها؛ إذ سارت هذه الكتب على الترتيب الذي أَلِفَهُ كثيرٌ من المعاصرين, ومشت عليه المُعْجَمات الحديثةُ, فرتّبت الألفاظ ترتيبًا هجائيًّا.

ومن الكتب التي سارت على هذا المنهج: (الجيم) لأبي عمرو الشيباني -عصريّ الخليل بن أحمد-, وكتابه غير مرتّب في الحقيقة إلا من حيثُ الحرْفُ الأوّل للكلمة, ومنها كذلك: (المنضد) لكُرَاعِ النَّمْلِ, و (المجمل في اللغة) و (مقاييس اللغة) لابن فارس, و (المنتهى في اللغة) للبرمكي, و (أساس البلاغة) للزمخشري -وهو كتاب موضوع في الفرق بين المعاني الحقيقية والمجازيّة, مع اعتناء بتفسير اللفظ في جُمَلٍ بلاغية-.

وعلى هذا المنهج المعجمات الحديثة.

• خاتمة: ظهرت مدرسة في العصر الحديثة اختلفت عن المدارس الثلاثة الماضية من حيثُ الترتيبُ, فمادّة (مغفرة) في حرف الميم ... وهكذا, غير أنّه لم يكتب لها القبول, وتُسَمَّى (المدرسة الواقعيّة) , إذ عنيت بترتيب الكلمات كما هي دون تجريدها من زوائدها, وقد سار على هذه الطريقة (مُعْجَم الرائد) لجبران مسعود -أحد أساتذة اللغة في لبنان-, وقد ظهر عام (1965م) , وهو شبيه بالمعاجم المدرسية التعليمية, ومنها كذلك: (المرجع) للشيخ عبد الله العلايلي, أحد لغويي القرن العشرين.

وقبل أن أطوي صفحة هذه المقالة, أشير إلى أن مناهج التأليف في المعجمات عند المعاصرين اختلفت, فظهرت المعجمات اللبنانيّة, والمعجمات المصريّة, وبينها فروق, وبدأت محاولات وضع المعجم التاريخي, ووضعت المعجمات المزدوجة بين لغتين, ووضعت كذلك معجمات الكلمات العامِّيّة واللهجات, وذلك ضربٌ من التأليف سأعرّج عليه في مقالة قادمة.

هذه كتابة عجلى من وحي الخاطر أعرضت فيها عن ذكر المراجع, وقد أفدت في ذكر الأنواع مما أخذته عن شيخنا الأستاذ الدكتور محمد بن يعقوب تركستاني, والله أسأله أن يعينني على معاودة النظر فيما كتبت, والحمدلله أوّلًا وآخرًا.

أبو الليث الشيراني

23/ 6/1435هـ

طيبة الطيبة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015