وهو بيتٌ يصلُح أن يكونَ شاهدًا يُظاهرُ ما ذكرنا لأنه لا يحتمِل تخفيفَ الياءِ لفسادِ وزنِه بذلك لأن الطيَّ لا يلحَق (مستفعِ لن)، غيرَ أنَّ هذا البيتَ مشكوكٌ فيهِ لأنَّه نُسِب في بعض النُّسخ المخطوطةِ إلى (الآخر) من غيرِ تسميةٍ. ولم أصبه في دواوينِ العُشْوِ، ولا في كتابٍ آخرَ، وأسلوبُه يشبِهُ أن يكونَ إسلاميًّا، أو مولَّدًا، فلعلَّ نسبتَه إلى الأعشى من وهمِ بعضِ النُسَّاخِ. ومتَى كانَ كذلك لم يجُزِ الاحتجاجُ به. علَى أنَّه مع ذلكَ يصفُ صورةَ نطقِهم للكلِمةِ آنَ ذاك. وهذه على كلِّ حالٍ قرينةٌ عاضِدةٌ.
،،،فإن قيلَ:
فلِمَ لا يكونُ في (السُّخرية) لغتانِ صحيحتانِ، تشديدُ الياء، وتخفيفُها.
قلتُ:
هذا ممتنعٌ لوجهينِ:
1 - أنا لم نجِد أحدًا من أصحابِ المعجماتِ، وغيرِها صرَّحَ بذلك، وإنَّما يذكرون لفظًا هذا صورتُه (سُخرية) على اختلافٍ بين النُّسَخ المطبوعةِ في ضبطِ يائِه. ومِن شأنِهم، وهجِّيراهم أن ينصُّوا على لغاتِ اللَّفظِ الواحدِ كما نراهم نصُّوا على حركةِ السِّين من (سخريّ) إذ كانَ فيها لغتانِ الضّمُّ، والكسرُ، تارةً بتَكرارِ اللَّفظِ مشكولًا، وتارةً بالتصريحِ بحركاتِه، فمن الأوَّلِ قولُ الجوهريِّ (ت 398هـ): (والاسمُ السُّخرية، والسُّخريّ، والسِّخريّ) (15)، فكرَّرَ لفظ (السّخري)، ولم يكرِّر لفظَ (السُّخرية). ومن الثاني قولُ ابنِ الأثيرِ (ت 606هـ): (والاسمُ السّخريّ بالضم، والكسر) (16)، فذكرَ الحركتينِ في سينِ (السّخري). ونظائرُ هذا مستفيضةٌ شائعةٌ.
فلمَّا رأيناهم لم يكرِّروا قطُّ لفظَ (السّخرية) مشكولًا بالوجهينِ، ولا نصُّوا على التشديدِ، والتخفيفِ كما نصُّوا على الضمّ، والكسر في سينِ (السّخريّ)، علِمنا أنَّه ليس في هذه الكلِمةِ إلا لغةٌ واحدةٌ، وهي التشديدُ، للأدلَّةِ التي أوردناها آنفًا.
وعلى أنَّه لو كانَت (السُّخرية) جائزةَ التخفيفِ، لكان اللُّغويّون، وفيهم فِطنةٌ، ودقّة تتغلغلُ إلى أبعَد من هذا، خُلَقاءَ أن لا يدَعوا التنبيهَ على ما فيها من النُّكتةِ في مباينةِ (السّخريّ)، فيقولوا مثَلًا: (السُّخريّ إذا ذكَّرتَها ضعَّفت الياء، وإذا أنّثتَها خفَّفتَها، أو جازَ تضعيفُها، وتخفيفُها) كما قالوا في (الباقلَّى): (إذا شدَّدتَّ اللامَ قصرتَها. وإذا خفَّفتَها مددتَّ) (17). وقد عقدَ الفرَّاء (ت 207هـ) في كتابِه "المنقوص والممدود" في مثلِ ذلك أبوابًا، منها بابٌ سمَّاه (ما يُفتح، فيُمدّ، ويُضمّ، فيُقصر)، وكذلكَ أنشأ ابن قتيبةَ (ت 276هـ) في كتابِه "أدبِ الكاتب" بابًا سمَّاه (باب ما يُقصَر، فإذا غُيِّر بعضُ حركاتِ بنائِه مُدَّ). وبصددٍ من هذا ما تراهُ في "إصلاحِ المنطقِ"، و"فصيح ثعلبٍ"، وغيرِهما من شِدَّة توجُّسِهم، واحتراسِهم، وتمامِ دقّتِهم، وضبطِهم.
2 - أنه لا يُعرَف في مصادرِ الثلاثيِّ على كثرتِها ِبناءُ (فُعْلِيَة) بالتخفيف، وإنَّما يُعرَف فيها بِناءُ (فُعْلِيَّة) بالتشديدِ كما بيَّنَّا. وإذن لا يجوزُ أن يدَّعى ثبوتُ (سُخْريَة) بالتخفيفِ. وهذا واضحٌ.
وبذلكَ يتبيَّنُ أنَّه لا يصِحُّ في هذا اللفظِ إلا (سُخريَّة) بتشديدِ الياءِ.
فيصل بن علي المنصور
6/ 1435 هـ