العلة الثالثة: كثرةُ الاستعمالِ.
ويطَّرد ذلك في موضعينِ:
الأولُ: حرفُ التعريفِ (أل)، ويعاقِبُه (أم) في لغة طيِّئ وحمير؛ تقولُ: (الكِتاب)، و (الرَّجل)، وفي الحديثِ: (ليس من امبرِّ امصيامُ في امسفرِ). وذلكَ أنَّ الصوابَ أنَّ أصلَها (أل) بالقطع، مثلُ (هلْ) وِفاقًا لابنِ كيسانَ؛ فلمَّا كانت ممَّا يكثرُ استعمالُها في كلامِهم جعلوا همزتَها همزةَ وصلٍ، ليكونَ أخفَّ عليهم. يشهدُ لذلكَ أنَّهم أظهروها في بعضِ الألفاظِ، كلفظِ الجلالةِ في النداءِ (يا أللهُ)، والقسمِ (أفأللهِ). وظهورُها في بعضِ المسموعِ دليلٌ على الأصلِ المتروكِ. ولا يُقالُ: إنّها همزةُ وصلٍ قُطعتْ. لأنَّ ذلك شاذّ؛ ألا ترَى أنه لو صَحَّ ذلكَ، لبلغَنا في الأفعالِ المبدوءِة بهمزةِ وصلٍ، ومصادرِها شواهدُ في قطعِها. ولم يبلغنا إلا في ضرورةِ الشِّعرِ. ويشهدُ له أيضًا أنهم فتَحوا الهمزةَ. ولو كانت همزةَ وصلٍ، لكانَ القياسُ كسرَها. ثمَّ ليس ببدعٍ أن يَّخفف اللفظُ لكثرةِ استعمالِهِ؛ ألا تراهم حذفوا نونَ (لم يكن)، وياء (لا أدري)، ونونَ (مِن) في لغةٍ؛ فلأن يحذفوا الهمزةَ وهي حرفٌ واحدٌ، في الوصلِ فقط أهونُ عليهم، وأيسرُ.
أمَّا كتابةُ بعض المتأخرينَ (البتة) هكذا (ألبتة)، وزعمُهم أنَّ الوجهَ فيها القطعُ = فخطأ محضٌ، ناشئ عن وهمٍ. وليس لِما يدَّعون شاهِدٌ من السَّماعِ، ولا عاضدٌ من القياسِ؛ بل القياسُ يَنفيه أشدَّ النفيِ. كما إنه لا يعرفه السابقونَ الأوَّلونَ من العلماءِ. ولو عرفوه، لذكرَه ولو واحدٌ منهم. ولعلَّ سببَ هذا الوهم أنَّ الذي أذاعَه قرأ في صحيفةٍ: (البتة: القطع) [وهذا معناها اللُّغويُّ]؛ فتوهَّمها هكذا: (البتة: بالقطع) أي: بهمزة القطعِ.
الثاني: كلمة (ايمُن) في القسمِ، وفرعُها (ايم) بحذف النونِ. وذلك أنَّ أصلَ (ايمن) أنها جمع (يمين) وِفاقًا للكوفيِّين؛ فلمَّا كثرَت في كلامِهم خفَّفوها، كما خفَّفوا (أل) التعريفِ؛ غيرَ أنَّ الأصلَ هنا مستعمَل؛ فيجوز لكَ أن تقطعَ الهمزةَ؛ فتقول: (أيمُن)، و (أيم). وجوازُ قطعِ الهمزةِ شاهِدٌ على أنها جمعُ (يمينٍ). وشاهدٌ آخرُ؛ وهو فتحُ الهمزةِ. وممَّا يدلّك على كثرة دوَران القسمِ في كلامِهم التماسُهم التصرُّفَ، والتخفيفَ فيهِ؛ فقد حذفوا فعلَه، واستغنوا عنه بأكثر من حرفٍ؛ وهي الباء، والواو، والتاء، واللام، وحذفوا خبرَه في نحو: (لعمركَ لأفعلنَّ)، ولم يعتدّوا بالقسم فاصِلاً في الإضافةِ، وبعد (إذًا) الناصبةِ، وغيرها. فلأن يحذفوا حرفًا واحدًا من جملةِ القسمِ في الوصلِ فقط أهونُ، وأيسرُ.
وللحديثِ بقيَّة نوردُها في الدرس القادم بإذن الله تعالَى.
ومعذرةً إنْ كان من نَقصٍ، أو خللٍ، أو تأخيرٍ. ولعلَّ عذري أني أكتبُ هذه الدروسَ على غيرِ مثالٍ سابقٍ.
ـ[أبو سفيان]ــــــــ[05 - 11 - 2008, 08:12 م]ـ
جزاك الله خيراً أخي أبا قصي،
ـ[أبو الفضل]ــــــــ[09 - 11 - 2008, 06:03 م]ـ
شيء مدهش ايها الشيخ الفاضل ولغة متينة لم أرها في شيء من المنتديات
واشكالات تطرحها وتجيب عنها بألمعية ... زادك الله توفيقا ورزقك الله الجنة
ـ[فيصل المنصور]ــــــــ[09 - 11 - 2008, 09:05 م]ـ
شكرًا لكما.
ولن تبلغَ هذه الدروسُ ما أؤمِّلُ إلا بتوجيهاتِكم، وتصويباتِكم.
ـ[القمطرة]ــــــــ[17 - 11 - 2008, 05:50 م]ـ
متى تُكتب (اثنان، اثنتان) همزة قطع؟
القِمطرة
ـ[فيصل المنصور]ــــــــ[25 - 12 - 2008, 05:40 م]ـ
لا تُكتب همزةَ قطع البتةَ. وقد تكلمت عليها في الدرس الخامس.