ـ[فيصل المنصور]ــــــــ[31 - 10 - 2008, 04:47 م]ـ
ذكرنا في الدرسِ الماضي العلةَ الأولَى لاجتلابِ همزةِ الوصلِ.
العلة الثانية: التعويض عن المحذوفِ.
وذلكَ أنَّ في العربيةِ كلماتٍ حَذفت العربُ منها حرفًا للتخفيفِ؛ فبقيت على حرفينِ؛ فأرادت أن تعوِّضَ عن هذا الحرفِ المحذوفِ حرفًا آخرَ، فلم تشأ أن يكونَ العِوضُ في درجةِ المعوَّضِ عنه؛ فاختارت همزةَ الوصلِ في نحو: (اِسم)، لأنها تُنطَق في البدءِ، وتُحذَف في الوصلِ. ولهذا نظائرُ، منها أنها عوَّضت بالتاءِ المربوطة في نحوِ: (عِدة)، لأنها ترجع في الوقفِ هاءً، والهاءُ حرفٌ خفيٌّ مهموسٌ يُشبِه الألفَ. ومنها أنها جمعتْ بعضَ ما حُذِف منه حرفٌ جمعَ مذكر سالمًا ابتغاءَ التعويضِ، كما في نحوِ: (سنون)، و (عِضون)، لأنَّ الجمعَ طارئٌ. ومنها أنها أشبعت حركاتِ الأسماء الستّةِ وِفاقًا للمازنيِّ إذا أضيفت – إلى غير ياء المتكلّم -، لأنَّ الإضافةَ شيءٌ عارِضٌ. ومنها أنها عوضت عن المحذوفِ بالتضعيف، كما في (دمّ)، و (أبّ)، و (أخّ)، و (فمّ) في لغةٍ، لأنَّه يُحذف في الوقفِ. كلُّ ذلك لكي لا يكون العِوضُ في درجةِ المعوَّضِ عنه. وهذا سرٌّ لطيفٌ لم أجِد أحدًا أشارَ إليهِ.
فإذا تبيَّن لك أنَّ من عللِ اجتلابِ همزةِ الوصلِ طلبَ التعويضِ، فاعلمْ أنَّ ذلكَ محصورٌ في أسماءٍ تسعةٍ؛ وهي (اسم، واست، وابن، وابنة، وابنم، وامرؤ، وامرأة، واثنان، واثنتان).
فإن قلتَ:
قد علمنا أنَّ (اسم، واست، وابن، وابنة، وابنم، واثنان، واثنتان) محذوفة اللامِ؛ فنحتمِلُ فيها دعوى كونِ الهمزةِ للتعويضِ؛ ولكنَّ (امرؤ)، و (امرأة) لم يُحذف من أصولها شيءٌ؛ فكيف زعمتَ أنَّ الهمزةَ فيهما للتعويضِ؟
قلتُ:
أمَّا (امرؤ)، فتوجيهه أن نقولَ: إنَّ أصله (مرْءٌ) – وهو مستعمَل -؛ فتصرَّفوا فيهِ كما تصرَّفوا في غيرِهِ؛ فحذفوا اللامَ؛ فقالوا: (مَرٌ) – وهو مسموع -؛ فلمَّا حذفوا اللامَ أرادوا التعويضَ، كما عوَّضوا في (اسم)؛ فزادوا في أوَّلِهِ همزةَ وصلٍ، وأعادوا المحذوفَ معًا؛ فصارَ (امْرؤ). وهم ممَّا يفعلُون ذلكَ، كما قالَ النابغةُ – وهو من شواهد سيبويه -:
... كليني لهمٍّ يا أُميمةَ ناصبِ ...
فغيَّروا الأصلَ؛ وذلكَ بالحذفِ، ثمَّ بنوا على التغييرِ حُكمًا؛ إذْ زادوا همزةَ الوصلِ؛ فلمَّا راجعوا الأصلَ بردِّ المحذوفِ لم يغيِّروا الحُكمَ المنبنيَ على التغييرِ؛ وهو زيادةُ الهمزةِ؛ أي: أنَّ العلةَ زالتْ، وبقيَ الحُكمُ. وآيةٌ أخرَى على ذلكَ أنَّ عينَه تتبعَ لامَه في الإعرابِ؛ تقولُ: (هذا امرُؤٌ)، و (رأيتُ امرَأً)، و (مررتُ بامرِئٍ)، لأن العينَ قبلَ استعادةِ المحذوفِ كانت هي محلَّ الإعرابِ.
فإن قلتَ: إنَّه لم يبلغنا عنهم أنهم قالوا: (امْرٌ)؛ فكيف تزعمُ أنها كانت كذلك، ثمَّ راجعوا الأصلَ؛ فقالوا: (امْرؤ)؟
قلتُ: ليس كلُّ تغييرٍ صرفيٍّ ينبغي أن يكونَ استعملته العربُ؛ ألا ترَى أنك تدَّعي في (خطايا) ونحوِها تغييراتٍ أفضت إليها معَ أنَّ العربَ لم تستعملها. وإنما أدّاك إلى هذا قياسُك على أصولِ العربِ ومقاصدِها التي تنحُو إليها في كلامِها.
أمَّا (امرَأَة)، فإنما هي (امرَأ) بزيادةِ تاء التأنيثِ. فلمَّا فتحُوا الهمزةَ لأجلِ تاء التأنيثِ أتبعُوا الراءَ حركتَها؛ ففتحوها للعلةِ التي تقدَّمَ بيانُها.
-واعلمْ أنَّك إذا ثنيتَ ما يجوزُ تثنيتُه من هذه الأسماء التّسعةِ، أو زدتَّ في آخرِهِ ياءَ النسَبِ، فإن همزتَه تبقَى همزةَ وصلٍ؛ تقولُ: (هذا اسمان، وابنان ...)، و (الجملة الاسمية). فإذا جمعتَ أحدَها جمعَ تكسيرٍ رددتَّ المحذوفَ، وحذفتَ همزةَ الوصلِ، وزدتَّ في اللفظِ الأحرفَ التي يقتضيها الجمعُ، لأنَّ جمع التكسير يرَدُّ الأشياءَ إلى أصولِها؛ نحو (الأسماء)، و (الأبناء)؛ فقد جعلتَها (سمو)، و (بنو)، ثمَّ صُغتَها على (أفعالٍ)؛ فأصبحت (أسماو)، (أبناو)؛ فأبدلت الواو همزةً لتطرفها بعد ألف زائدة؛ فأضحت (أسماء)، و (أبناء)؛ فالهمزةُ إذًا همزةُ الجمعِ، لا همزةُ الوصلِ.
¥