الذي قادني إلى هذا الكلام كتابان أصدرهما الشيخ محمد صادق الكرباسي تتعلق بالعروض. ولمّا كنت معنيّا بالخليل وبالعروض، فقد سعيت للحصول عليهما. وهما الأوزان الشعرية في 719 صفحة. وهندسة العروض في 391 صفحة إضافة إلى كتاب ثالث بعنوان بحور العروض استخلصه الدكتور الجزائري عبد العزيز شبين، من ذينك الكتابين.
ينطلق الشيخ من قناعته بأن التفعيلات هذه ليست مقدسة، بالإمكان استحداث ما يمكن، شرط أن تتقبله الآذان الحرة وصفاء القلوب (هندسة العروض 29). وأنا أفهم ماذا قصد بالآذان الحرة وصفاء القلوب، غير أن من القراء من يحتاج إلى توضيح هذين التعبيرين.
ويقول في مقدمته لكتاب الأوزان الشعرية ولنسلط ضوء الأدب على الشعر وأوزانه، فنقول إن الشعر الجاهلي لم يعتمد على أي تحديدات يمكن تسميتها أوزانا شعرية أو بحورا شاعرية، بل كانت تطلق عفويا دون أي عناء، وإذا ما رجعنا إلى تاريخ ما قبل العهود الجاهلية وإلى عهد الحضارات المنقرضة لَما وجدنا لهم أوزانا شعرية تلجمهم وتحددهم.
وفي هندسة العروض وهو يشرح بعض مراحل تكوينه للدوائر والبحور، قال في المرحلة الثانية قمنا بتركيب تفعيلة فعولن مع مفاعلن، كما هو ملاحظ في المثال فعولن فاعلن فعولن فاعلن ووضعنا هذه التركيبة، بعد تحويلها إلى البنود، في الدائرة وتلاعبنا بها، كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك، فتكونت البحور. وأنا أعرف مقصده من التلاعب ولكن ما كل قارئ للكتاب يعرف ذلك.
ولا شك أن الشيخ المؤلف أراد الإيجاز والاختصار فلم يوضح تلك التركيبات اللغوية معتمدا على ذكاء القارئ وفطنته.
صحيح أن التفعيلات ليست مقدسة ولا هي من وحي السماء ولكنها تصوير حي لموسيقى الشعر العربي. ذلك أن الخليل بن أحمد حين استنبط التفعيلات، كان أشبه بالمصوّر الذي يصور منظرا طبيعيا. أنت لديك آلة تصوير، تلتقط صورة لزهرة الخزامى، مثلا، ثم تقول لي هذه صورة زهرة الخزامى. فهل يحق لي أن أتلاعب بالصورة باعتبارها ليست مقدسة ولا من وحي السماء؟ ستقول لي وماذا في ذلك إن كان التلاعب سيزيدها جمالا؟ سأقول لك إن الحقيقة لا تحتاج إلى تزويق وإلا فقدت كونها حقيقة. التلاعب بالأوزان لا علاقة له بعمل الخليل بن أحمد، بل هو نهج آخر. وقد سبقت محاولات عديدة في هذا الإطار.
ثم إنّ الخليل الجليل لم يكن يهدف من وراء عمله ذاك المحافظة على أوزان الشعر. كما لم يطلب من الشعراء أن يقيسوا ما ينظمون بعيدان الكبريت.
الجهد المبذول في هذين الكتابين جهد كبير يُتعب من يرومه، ويدفع إلى الشفقة على من يبذله في زمن تضيع فيه الأمة، وقد فقدت حاضرها، بل وحتى مستقبلها إن بقيت خائضة في مستنقعات التخلف والفتن وبرامج الأوثان واللهاث وراء السراب.
هذا العرض الموجز لا يغني عن الحوار مع الجهد الكبير للشيخ الكرباسي الذي بذل جهد المستطيع لفهم عروض الخليل الجليل، ومحاولة الإفادة منه لاقتراح رؤية جديدة للتفعيلات وبحور الأشعار. فذاك الجهد يثني على ذاته بذاته، وينفتح على كل حوار متفاعل مع أطروحاته.
بقلم: د. هادي حسن حمودي
حين ظهر الخليل بن أحمد (100 ـ 175) للهجرة وجد أمامه أشعار العرب التي يرقى تاريخ أقدمها إلى حوالي مائة وخمسين عاماً من قبل ظهور الإسلام، والتي هي تمثلات متطورة لأناشيد المعابد القديمة في وادي الرافدين وجنوب الجزيرة العربية، وعلى أساسها صيغت ملحمة كلكامش، انتقالا إلى أناشيد معابد آتون وآمون في وادي النيل. الإيقاع الموسيقي ذو جذور متوائمة ولكنْ بأنغام شتى.
التفت الخليل بعبقريته الفذة المتفردة إلى أن لهذه الأشعار موازين موسيقية معينة استطاع استنباطها وبوّبها في بحور الشعر المعروفة. وسمى كل واحد منها بحراً، لأنه، فعلا، بحر مترامي الشطآن، بعيد الغور.
ولَمّا لم يكن يستطيع، بحكم معارف زمانه، أن يكتبها بالرموز الموسيقية، لجأ إلى رسمها بالتفعيلات المعروفة، فعولن، مفاعيلن، مستفعلن .. الى آخره.
هل كان الشعراء قبل عصر الخليل يعرفون تلك التفعيلات ويضعونها أمامهم وهم ينظمون أشعارهم؟
لا أعتقد ذلك ولا برهان على الادعاء.
¥