ملتقي اهل اللغه (صفحة 3182)

الشاعر الجدير بصفته يعرف الإيقاع من غير حاجة إلى معرفة التفعيلات، فالمتنبي، على سبيل المثال، الذي جاء بعد الخليل بأكثر من مائة عام وعام، كان، في أحيان كثيرة، يرتجل الشعر ارتجالا. ذلك أن القصيدة تولد عنده لفظا ومعنى وموسيقى.

وإلى العصر الحديث، يحدثنا أحمد حسن الزيات في مجلة الرسالة، أن الشاعر العراقي عبدالمحسن الكاظمي الذي كان مغتربا في مصر في فترة من النصف الأول من القرن العشرين، دُعي إلى حفل أدبي دعوة حضور لا دعوة إنشاد ومشاركة. ولذا فوجئ الكاظمي أثناء الحفل بتقديمه لإلقاء قصيدة في المناسبة، ولم تكن لديه قصيدة جاهزة. يقول الزيات ارتقى الكاظمي المنصة، صمت قليلا، قرأ شطرا من الشعر، أعاده ثلاث مرات، ثم أكمله بيتا كاملا، أعاد البيت عدة مرات، ثم انطلق يتلو قصيدته وأنا أكتب حتى انكسر رأس القلم الرصاص الذي كنت أكتب به واستبدلت به غيره، عدة مرات .. والشاعر ماض في تلاوة قصيدته وكانت من خمسة وسبعين بيتا مرتجلا، ولولا أن الزيات كتبها لضاعت في طوايا الزمن.

وخذ من الجواهري مثالا آخر، في كيفية إنجاز قصائده. وغيره كثير.

أما المتشاعرون فشأنهم شأن آخر. منهم من يكتب التفعيلات أمامه، ويلبسها ثياب الألفاظ، فيأتي عمله نظما لا شعرا، أو قل هو صنعة وتصنّع لا شعر صادر عن شاعرية أصيلة متأصّلة. ثم جاء زمان على بعضهم كانوا يقيسون طول الشطر بعيدان الكبريت فإذا تساوى شطر مع آخر طولا وسكنات وحركات، فهو شعر. وجاء زمان آخر، ظهر في أحد البلدان العربية شعار الكلمة تعرف موضعها فكان المتشاعرون يقطعون كلمات الصحف والمجلات ويضعونها في كيس ثم يسحبون كلمة وراء أخرى، ويكتبون ما يسحبون، فإذا بهم ينشرون ذلك باعتباره شعرا حتى وصلنا الآن إلى الشعر المنثور والنثر المشعور، المنادي بالويل والثبور، وعظائم الأمور.

الذي قادني إلى هذا الكلام كتابان أصدرهما الشيخ محمد صادق الكرباسي تتعلق بالعروض. ولمّا كنت معنيّا بالخليل وبالعروض، فقد سعيت للحصول عليهما. وهما الأوزان الشعرية في 719 صفحة. وهندسة العروض في 391 صفحة إضافة إلى كتاب ثالث بعنوان بحور العروض استخلصه الدكتور الجزائري عبد العزيز شبين، من ذينك الكتابين.

ينطلق الشيخ من قناعته بأن التفعيلات هذه ليست مقدسة، بالإمكان استحداث ما يمكن، شرط أن تتقبله الآذان الحرة وصفاء القلوب (هندسة العروض 29). وأنا أفهم ماذا قصد بالآذان الحرة وصفاء القلوب، غير أن من القراء من يحتاج إلى توضيح هذين التعبيرين.

ويقول في مقدمته لكتاب الأوزان الشعرية ولنسلط ضوء الأدب على الشعر وأوزانه، فنقول إن الشعر الجاهلي لم يعتمد على أي تحديدات يمكن تسميتها أوزانا شعرية أو بحورا شاعرية، بل كانت تطلق عفويا دون أي عناء، وإذا ما رجعنا إلى تاريخ ما قبل العهود الجاهلية وإلى عهد الحضارات المنقرضة لَما وجدنا لهم أوزانا شعرية تلجمهم وتحددهم.

وفي هندسة العروض وهو يشرح بعض مراحل تكوينه للدوائر والبحور، قال في المرحلة الثانية قمنا بتركيب تفعيلة فعولن مع مفاعلن، كما هو ملاحظ في المثال فعولن فاعلن فعولن فاعلن ووضعنا هذه التركيبة، بعد تحويلها إلى البنود، في الدائرة وتلاعبنا بها، كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك، فتكونت البحور. وأنا أعرف مقصده من التلاعب ولكن ما كل قارئ للكتاب يعرف ذلك.

ولا شك أن الشيخ المؤلف أراد الإيجاز والاختصار فلم يوضح تلك التركيبات اللغوية معتمدا على ذكاء القارئ وفطنته.

صحيح أن التفعيلات ليست مقدسة ولا هي من وحي السماء ولكنها تصوير حي لموسيقى الشعر العربي. ذلك أن الخليل بن أحمد حين استنبط التفعيلات، كان أشبه بالمصوّر الذي يصور منظرا طبيعيا. أنت لديك آلة تصوير، تلتقط صورة لزهرة الخزامى، مثلا، ثم تقول لي هذه صورة زهرة الخزامى. فهل يحق لي أن أتلاعب بالصورة باعتبارها ليست مقدسة ولا من وحي السماء؟ ستقول لي وماذا في ذلك إن كان التلاعب سيزيدها جمالا؟ سأقول لك إن الحقيقة لا تحتاج إلى تزويق وإلا فقدت كونها حقيقة. التلاعب بالأوزان لا علاقة له بعمل الخليل بن أحمد، بل هو نهج آخر. وقد سبقت محاولات عديدة في هذا الإطار.

ثم إنّ الخليل الجليل لم يكن يهدف من وراء عمله ذاك المحافظة على أوزان الشعر. كما لم يطلب من الشعراء أن يقيسوا ما ينظمون بعيدان الكبريت.

الجهد المبذول في هذين الكتابين جهد كبير يُتعب من يرومه، ويدفع إلى الشفقة على من يبذله في زمن تضيع فيه الأمة، وقد فقدت حاضرها، بل وحتى مستقبلها إن بقيت خائضة في مستنقعات التخلف والفتن وبرامج الأوثان واللهاث وراء السراب.

هذا العرض الموجز لا يغني عن الحوار مع الجهد الكبير للشيخ الكرباسي الذي بذل جهد المستطيع لفهم عروض الخليل الجليل، ومحاولة الإفادة منه لاقتراح رؤية جديدة للتفعيلات وبحور الأشعار. فذاك الجهد يثني على ذاته بذاته، وينفتح على كل حوار متفاعل مع أطروحاته.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015