وفي المقابل يبدو الدافع من وجودها هو العبقرية التربوية التي سيطرت على ذهن الخليل بن احمد
ربما تكون للخليل عبقرية تربوية ولكن ....
حين تكشف له وبوضوح ان الشعر خاصة وعاء التاريخ والعلوم والثقافة العربية حيث كانت الشفوية المترنّمة هي الأسمى مقارنة بمهنة التدوين والورّاقين في ذلك العصر.
قطعا الخليل وسواه كانوا يدركون ذلك ألم يقل العرب من قديم الشعر ديوان العرب؟ ما علاقة هذا بالعبقرية التربوية؟ وما تعريف التربوية في هذا المجال؟
وهذا تحديداً ما يفسر لنا تجاهل الخليل لبحر المتدارك الذي جاء به بعده تلميذه الأخفش .. ولم يكن سهواً من الخليل بقدر ما كان عدم شيوع هذا البحر الشعري من اهم مسوّغات تجاهله ..
كيف يفسر هذا ذلك؟
صحيح الخليل لم يكن ليسهو عن المتدارك كيف وهو على دوائره؟ إنما اعتبره بحرا مهملا. فليس عليه شعر بهيئته التامة إلا البيت المصنوع
جاءنا عامر سالما صالحا ....... بعد ما كان ما كان من عامر
وهو كسائر الأبيات المصنوعة على ما دعي بالبحور المهملة والتي زعم أن المولدين توسعوا فيها لضيق البحور العربية بهم.
ثم هل الأخفش تطرق إلى المتدارك أم الخبب؟ والخبب إيقاع مستقل لذا لم تشمله دوائر بحور الخليل الذي يقال إنه نظم عليه:
سُئِلوا فأبَوْا فلقدْ بخلوا ......... فلبِئسَ لعَمرُكَ ما فعلوا
أوَقفتَ على طلل ٍ طرَباً .......... فشجاكَ وأحزَنكَ الطللُ
وكذلك
هذا عمروٌ يستعفي من ....... زيدٍ عند الفضل القاضي
فانهوْا عمراً إني أخشى ........ صوْلَ الليث العادي الماضي
ذلك أنه لا يخدم نظريته التربوية التي اشرت اليها ..
إدراك الخليل للبحور المهملة على دوائره ومنها المتدارك حقيقة
إدراك الخليل لأهمية الشعر حقيقة
وجود نظرية تربوية، أكيد ثمة نظريات في التربية
ربط هذا الحقائق معا أكثر مما يطيقه المنطق.
مثل هذه الفكرة تفتح لنا آفاقاً من التأمل والملاحظة .. بل وتفتح ابواباً من التأويلات الحلمية ..
هات إحلم يا سيدي لعله خير
لعل أهمها .. هو ماذا لو ان عقلية عبقرية كالخليل .. طرقت باب الشعر بنظرية فنية لا تربوية .. ؟
لا شك أن الخليل كان سيبدع في كل ما يتناول، ولو تناول الفقه لأبدع فيه أو الشعر لأبدع فيه. لكن سواه من الأفذاذ تطرقوا لهذه المجالات وأبدعوا فيها.
الخليل بن أحمد لم يطرق باب الشعر بل طرق وفتح باب وزن الشعر، والخلط بين الشعر ووزن الشعر مغالطة كبيرة. لغاية في نفس إبراهيم سنصل إليها من متابعة سلسلة المغالطات المبرمجة مسبقى لتؤدي لتلك الغاية.
إن ما قدمه الخليل بن احمد للشعر .. كقيمة (وعائية) يفوق كثيراً ما قدمه من الناحية الفنية ..
إذا كان المقصود أن الخليل قدم لوزن الشعر ما يفوق ما قدمه للناحية الفنية الأدبية البلاغية للشعر فهذا صحيح، ولم يدع مدع ماضيا أو حاضرا أن العروض تناول المضمون الشعري أو الفيزياء أو التاريخ وكل ذلك لا علاقة له بالعروض.
ولعل السقوط الشنيع للشعر في عصر الدول المتتابعة أو عصر (انحطاط الشعر) كما يسمّى أحيانًا شاهدٌ حي على الاحتفال بالصنعة التي سعى اليها الخليل دون قصد ..
لا حول ولا قوة إلا بالله
الخليل سعى لتقعيد الأوزان العربية كما سعى لتقعيد النحو العربي مع تلميذه سيبويه، وهما مما يحتاج إليهما الشاعر العربي بعد خروج العرب من بيئتهم واختلاطهم بسواهم وما لحق سليقتهم نتيجة لذلك من تأثر. فهل كان العروض وحده مسؤولا عن السقوط الشنيع في أعصر الانحطاط. إن المغالطة هنا تبلغ ذروة التضليل في تلطيخ أبهى ما في نتاج الأمة الحضاري وتبرئ من مسؤولية الإنحطاط العوامل الأخرى التاريخية والسياسية والإجتماعية التي نجمت جميعا عن تعطيل النهج الفكري الذي يقف الخليل علما شامخا فيه.
وهي ذاتها المفسر الوحيد للغياب شبه الكلي للقصيدة التقليدية ذات الآفاق الشعرية في العصر الحديث ..
¥