يرجع الباحث إلى المصادر في هذا الأصل الثاني رجوعا خاصا؛ فلا يَعْبَأُ منها إلا بمصادر مسألته القصدية الخاصة، وإن أَحاطَها أحيانا بهالةٍ من المصادر العفوية العامة.
?
"ج=مَادَّةٌ"
ثالثُ أصول المنهج التأسيسية مَادَّةٌ يَستمدُّها الباحث من مصادر مسألته القَصديَّة الخاصَّة استمدادًا كاملا ما استطاع إليه سبيلا، يُغْرِيه به ويُعِينه عليه ما في كلمة مَادَّة نفسها من دلالة على أنها سِرّ حياة البحث الذي يستمر إليه من مصادره استمرارَ النُّسْغ من جَذْر الشجرة إلى فرعها.
وكما يَرِدُ العطشانُ عين المياه ويَنْهَل منها يَرِدُ الباحث مَصْدَرَ مسألته ويستفيد منه. وكما تهتدي النَّحْلَةُ من زهر البستان إلى ذَواتِ الرَّحيق دون غيرها يهتدي الباحث من مواد المصدر إلى مادة مسألته دون غيرها.
وما استحضار مثال النحلة إلا من باب التقريب وحسن الظن بالباحث؛ فقد أُوتِيَتْ هي حاسَّةَ الاهتداء إلى الرحيق، ولم يُؤْتَ هو حاسَّةَ الاهتداء إلى المادة؛ ومِنْ ثَمَّ يظلُّ يُخْطِئُها أو يجمع معها غيرها -وإن قلَّ ذلك منه على الزمانِ والمُحاولةِ والمُزاولةِ- فأما هي فلم تخطئ قَطُّ ولن تخطئ أبدًا؛ لا تَبْديلَ لخلق الله؛ فتبارك الله أحسن الخالقين!
?
"د=تَصْنِيفٌ"
رابعُ أصول المنهج التأسيسية تَصْنيفٌ تنقسم فيه المادة بما تُؤدِّيه طبيعتُها وخصائصها، على أقسام متميزة تميزا منطقيا واضحا.
ولا تستعصي على الانقسام مادة -وإن قَلَّتْ- إلا أن يَغْفُلَ الباحثُ أو يكسَلَ أو يُهمِل، وهي أحوال لا يستقيم عليها عمله أصلا، ولا يستمر إلى غايته.
أما الباحثُ الواعي النشيط المعتنِي فلن يعدم ما يَدْخُلُ منه إلى تقسيم المادة وتصنيفها على حسب ظاهرها وحده، أو باطنها وحده، أو ظاهرها وباطنها جميعا معا- وعلى حسب ما يراه هو فيها، أو على حسب ما دَرَجَ غيرُه على رؤيته فيها، وإن خالفهم فيه.
ربما كان في تصنيف المادة وَجْهٌ من مُبادَرة الباحث إلى عرض رأيه الذي سينتهي إلى إثباته، ولكن لا يمتنع أن يكون فيه وَجْهٌ من مُبادَرته إلى رأي غيره الذي سينتهي إلى دَحْضِه.
?
"هـ=بِنَاءٌ"
خامسُ أصول المنهج التأسيسية بناءٌ تَتَرَكَّبُ فيه صنوف التصنيف بحيث تستوي بنيانا محكما يشد بعضه بعضا، على مثل بنيان الباحث نفسه، يظلّ يدلّ عليه ويُشير إليه.
إن كلّ عمل مُتقَن يعمله الإنسان لا يخلو من بُنْيَانِيَّتِهِ هو نفسه أي تَرَكُّب أجزائه ظاهرا وباطنا وارتباطها حتى لَتُظَنّ كيانًا واحدًا صُلْبًا مُصْمَتًا، وما ذاك إلا أنها بُنْيان كبُنْيان الإنسان.
ولا ريبَ في تَفاوُت مُدْرِكي هذه البُنيانيّة مُتلقينَ وباحثينَ؛ فمِنْ أسرار التركب والارتباط ما لا يَتيسَّر لأيِّ أَحَدٍ؛ فلا يقدر أيُّ باحث على إضماره في بحثه، ولا يقدر أيُّ متلق على إظهاره منه.
ولكنْ لا غِنى عن مبادئ المنطق الطبيعي التي يتمثل بها أيُّ شيءٍ أمامَنا بُنيانًا سَوِيًّا بلا اضطِراب ولا تَنافُر ولا تَناقُض، لا في التحديد ولا في الترتيب ولا في التهذيب.
?
"ابْنُ السَّبِيلِ"
الآنَ بعدما اهتدى طالبُ منهج البحث العلمي إلى علمه الملائم واشتغل بتحصيله، ثم تَبيَّنتْ له وتميزت أصول المنهج التأسيسية الخمسة- لم يَعُدْ أيَّ ابنِ سبيل، بل صار ابن هذه السبيل دون غيرها.
قَبْلَئِذٍ كان يَهْرِفُ بما لا يَعْرِفُ، فلا يؤخذ عليه خطأٌ عِلْمي لا قَوْلي ولا فِعْلي، بل يُعْرِض عنه أبناءُ السبيل سلامًا مِنْ فَرَطاتِ جهله! فأمّا الآن بعدما صار من أبناء هذه السبيل، فينبغي له أن يَتَأَدَّبَ بأدبهم لأنه سيكون مِلاكَ ما بينه وبينهم، يُحاكمونه إليه، ويُحاكمهم.
ومِنْ أَدَبِ أبناء هذه السبيل أن يَتَواصَوْا باليقين بالحق -فلا يَقرّ لهم قرار على غيره- وبالإخلاص للحق -فلا يكون لهم قصد إلى غيره- وبإتقان العمل -فلا ينقطع لهم دَأَبٌ دونه- وبالثبات على اليقين والإخلاص والإتقان -فلا يكون منهم تَحوُّل عنها- وبالرضا بعواقبها؛ فلا يكون منهم سخط عليها، ولا يأس منها.
?
"تَبَيَّنْ=الْجِدَّةُ أَوِ النَّقْصُ=1"
¥