فقد كان د. ممدوح حقي ينظر إلى قول ابن سعيد الأندلسي: إنهم "استنبطوا وزنه من الرجز"، وأنّ "فيه متحركاً وساكناً زائداً على الرجز المثلث المسمّى بالمشطور"، عندما جاء إلى بعض أبيات (الدوبيت)، متوهماً أنها شكلٌ آخر من أشكال بحر (السلسلة)، فقطعها كما يلي: (تُنْ مستفعلن مستفعلن مستفعلن)، والذي يساوي: (مفعولاتُ مفعولاتُ مفعولاتُ مفْ).
وتابعه على ذلك (معجم الخليل) و (معجم مصطلحات العروض)، ود. عز الدين إسماعيل، معتبرين زيادة السبب (تن) (/هـ) في أوله من باب (الخزم) الملتزم!!
وقرّر د. كمال أبو ديب أن وزنَ الدوبيت ليسَ إلاّ تحقيقاً فعلياً للإمكانية النظرية التالية: (فافافاعلن فافاعلن فافاعلن)، والتي تساوي كما هو واضح: (مفعولاتُ مفعولاتُ مفعولاتُ مفْ) أيضاً.
وتكلّف الشيخ جلال الحنفي قسر وزن الدوبيت على دخول حظيرة (الرمل)، بلزوم (خرم) أوله كما يقول، وتقطيعه على الشكل التالي: (فعْلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن)! والذي يساوي أيضاً: (مفعولاتُ مفعولاتُ مفعولاتُ مفْ)، مدّعياً أن (فعْلن) الأولى ما هي إلا (فاعلاتن) الرملية، خُرِمَ منها (فاعِ) لزوماً!
وكان د. أحمد مستجير رحمه الله، في نظريته الرائدة للعروض العربي أول عروضيّ يَحمل هذا الوزنَ على هذه التفعيلة .. معتبراً تفعيلاته الأصلية مركّبة صراحة هذه المرة من تفعيلات البحر المهمل: (مفعولاتُ مفعولاتُ مفعولاتُ) ثلاث مرات في الشطر. والأغرب أنه يعتبره من البحر (الطويل) الذي يقوم عنده على إيقاع (مفعولات مفعولاتُ مستفعلن)!، فخلط بالتالي بين ثلاثة بحور متمايزة، أحدها مهمل لم تكتب عليه قصيدة عربية صحيحة.
وهذا ما اختاره أخيراً الأستاذ غالب الغول، فهو مسبوقٌ إليه كما ترى، معتقداً أن اختياره هذا يحلّ إشكالَ عروبة هذا البحر، كما يقول.
وليست المشكلة في إثبات عروبة الدوبيت أو فارسيته، ولكن المشكلةَ الكبرى تتمركز حول طرائقِ تفعيله المختلفة، والتي أثبتنا عدم كفايتها في تغطية كلّ أنساق الدوبيت وزحافاته .. وقد فصّلنا ذلك في كتاب الدوبيت.
فنحن حتى لو أقررنا بعروبة البحر، رغم فارسيةِ اسمه، فإن تفعيله على (مفعولاتُ) لم يحلّ إشكال التفعيل. كما أن تفعيلَه بطريقة تُخالف طرائق تفعيل البحور العربية الخمسة عشر لن ينفي عروبة البحر إن كان عربياً!.
وكان ردُّنا على تفعيله الأخير يقول: إنّ تكرار (مفعولاتُ) هو بحر مهمل، قد تفرزه إحدى دوائر الخليل، وقد وجدنا عليه بعض الموشحات الأندلسية، ولكن لا علاقة له بالدوبيت ولا غيره من قريب ولا بعيد ...
فوزن الدوبيت لا يتحقّق مطلقاً بهذه الصيغة النظرية، بل لا بد من مزاحفتها (إلزامياً) لكي تتطابق بطريقة ما مع وزن الدوبيت، وذلك هو محور الإشكال.
فبغضّ النظر عن (الوتد المفروق) المفترَض في تفعيلة (مفعولاتُ) والذي لا يجوز المساسُ به عندهم، فإن (مفعولاتُ) الأولى في الدوبيت، قد تردُ على أحد الأشكال التالية:
(مفعولتُ): كقول البهاء زهير: (شَكْوَى كَلَفي عساكَ أن تكنفَها) وهو الذي أوهم الغول وأغراه باتخاذ (مفعولاتُ) أصلاً لها!!
أو (مفعولن): كقول الباخرزي: (يا مَنْ أضْحَى وما لهُ منْ ثاني)
أو (فعِلاتن): كقول الخليلي: (عَبَقَتْ بالطيبِ في الدّجى نفحتُهُ)
أو (مفتعلن): كقول الأصبهاني: (أَجْمَعُ شَمْلاً هواكَ مَنْ شَتّتَهُ)
أو (فعِلاتُكَ): كقوله: (وَرَمَاهُ عَلى اللظَى قتيلاً وسَلا)
وهي جميعها ليست من زحافات (مفعولاتُ)، بل إن (مفعولاتُ) ذاتها ليست من بينها، لأنها ليست من تفاعيل الدوبيت أصلاً، فهي لا ترد في هذا الموقع سالمةً على الإطلاق ..
وعلى افتراض قبولنا بسقوط ألف الوتد المفروق، فإن (مفعولتُ) هي الزحاف الوحيد (لمفعولاتُ) من جهة، مع وجوب التزامه من جهة أخرى!
كذلك فإن (مفعولاتُ) الثالثة، لا ترد إلاّ محرّفةً على (مفعولَتُ)، مع زيادة سبب خفيف إلى آخر النسق، بصورة إلزامية أيضاً، لتصبح الصيغة المطابقة لوزن الدوبيت هي: (مفعولَتُ مفعُولاتُ مفعولتُ مَفْ)، أو: (مفعولتُ مَفْعُلاتُ مفعولَتُ مَفْ)، واللتان توافقان من الدوبيت بعض أنساقه الشهيرة فقط. في حين هنالك صيغٌ أخرى للدوبيت لا تنطبق على هذه الأنساق أبداً ..
¥