ـ[أبو محمد يونس المراكشي]ــــــــ[02 - 05 - 2014, 04:39 م]ـ
المبحث الثاني: حكم رسم القرآن الكريم وحكم اتباعه
المطلب الأول: في رسم القرآن الكريم هل هو توقيفي أم اصطلاحي
اختلف العلماء هل رسم المصاحف توقيفي من النَّبِيّ، أم اجتهادي؟ فأما الذين ذهبوا إلى أن الرسم توقيفيٌّ، فلم يجيزوا مخالفته، وأما القائلون بأنه اجتهاد واصطلاح من الصحابة، فاختلفوا، فمنهم من أوجب اتباع اصطلاحهم، ومنهم من جوَّز مخالفته، وجوز كتابة القرآن على غيره، ومنهم من أوجب كتابة المصاحف على الرسم القياسي منعًا للَّبْس.
فتلخص أن العلماء في الرسم العثماني على مذهبين (1): مذهب يوجب اتباعه (سواء من قال بالتوقيف ومن قال بأنه اصطلاح واجب الاتباع)، ومذهب يرى جواز رسم المصاحف على غير الرسم العثماني، وبعضهم يوجب ذلك.
المذهب الأول: أن رسم القرآن توقيفي، فلا تجوز مخالفته، ولا تجوز كتابة المصحف إلا على الكتبة الأولى، وهو مذهب الجمهور. واستدلوا على ذلك بأدلة، منها:
1 - إقرار النَّبِيّ هذه الكتبة، فقد كان للنَّبِيّ كُتَّاب يكتبون الوحي، وقد كتبوا القرآن على هذا الرسم بين يديه، وأقرهم على تلك الكتابة، ومضى عهده والقرآن على هذه الكتبة، لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل.
2 - ما ورد من أن النَّبِيّ كان يوقف كُتَّابه على قواعد رسم القرآن، ويوجههم في رسم القرآن وكتابته.
أ- فعن معاوية أنه كان يكتب بين يدي النَّبِيّ، فقال له: أَلِق الدواةَ، وحرِّف القلمَ، وأقِم الباء، وفرِّق السينَ، ولا تعوِّر الميم، وحسِّن الله، ومدّ (الرحمن)، وجوِّد (الرحيم).
ب- وعن أنس أن النَّبِيّ قال: إذا كتب أحدكم (بسم الله الرحمن الرحيم)، فليمدَّ الرحمن.
3 - إجماع الصحابة على ما رسمه عثمان في المصاحف، وعلى منع ما سواه.
4 - إجماع الأمة المعصوم من الخطأ بعد ذلك في عهد التابعين والأئمة المجتهدين على تلقِّي ما نُقِل في المصاحف العثمانية التي أرسلها إلى الأمصار بالقبول، وعلى ترك ما سوى ذلك.
فهذا إجماعٌ من الأمة على ما تضمنته هذه المصاحف، وعلى ترك ما خالفها من زيادة ونقص، وإبدال كلمةٍ بأخرى، أو حرف بآخر.
ولذلك جعل الأئمة موافقة الرسم العثماني ولو احتمالاً شرطًا لقبول القراءة، فقالوا: كل قراءة ساعدها خط المصحف، مع صحة النقل، ومجيئها على الفصيح من لغة العرب، فهي المعتبرة.
المذهب الثاني: أن رسم المصاحف اصطلاحي لا توقيفي، وعليه فتجوز مخالفته.
ومِمَّن جنح إلى هذا الرأي وأيده ابن خلدون في مقدمته، والقاضي أبو بكر في الانتصار، وشيخ الإسلام ابن تيمية.
واستدل القائلون بِهذا الرأي بأدلة منها:
-1 أن الرسوم والخطوط ما هي إلا علامات وأمارات، فكل رسمٍ يدل على الكلمة، ويفيد وجه قراءتِها، فهو رسم صحيح.
-2 أن كتابة المصحف على الرسم العثماني قد توقع الناس في الحيرة والخطأ، والمشقة والحرج، ولا تمكنهم من القراءة الصحيحة السليمة.
-3 أنه ليس في الكتاب العزيز، ولا السنة المطهرة، ولا في إجماع الأمة، ولافي قياس شرعي - ما يدل على وجوب كتابة المصحف برسم معين، وكيفية مخصوصة، ولَم يروَ عن الرَّسُول أنه أمر أحدًا من كتاب الوحي حين كتابة الآيات القرآنية أن يكتبها برسم خاصٍّ، ولا نَهى أحدًا أن يكتبها بِهيئة معينة.
قال ابن خلدون: (فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغٍ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسُّط، لمكان العرب من البداوة والتوحُّش، وبُعْدِهم عن الصنائع، وانظر ما وقع من أجل ذلك في رسمهم المصحف، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثيرُ من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبرُّكًا بما رسمه أصحاب الرَّسُول، وخير الخلق من بعده، المتلقون لوحيه من كتاب الله تعالى وكلامه، كما يُقتَفى لهذا العهد خطُّ وليٍّ أو عالمٍ تبرُّكًا، ويُتَّبع رسمه خطأً أو صوابًا، وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه؟ فاتُّبع ذلك، وأُثْبِت رسمًا، ونبَّه العلماء بالرسم إلى مواضعه). (2)
قال: (ولا تلتفتنَّ في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنَّهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يُتخيَّل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يُتخيَّل، بل لكل وجه، يقولون في زيادة الألف في {لاأذبحنَّه} إنه تنبيهٌ على أن الذبح لم يقع، وفي مثل زيادة الياء {بأييد} إنه تنبيهٌ على كمال القدرة الربانية، وأمثال ذلك مِمَّا لا أصل له إلا التحكم المحض، وماحملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهًا للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمالٌ فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وليس ذلك بصحيح). (3)