ـ[أبو محمد يونس المراكشي]ــــــــ[29 - 04 - 2014, 01:29 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان وفضله على سائر الأنام والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه الكرام.
أما بعد
فإن الرسم القرآني كثيرا ما يغاير ما نعرفه من قواعد للإملاء إما زيادة وإما نقصا، وهذا البحث يحاول تفسير ظاهرة الزيادة في رسم المصحف، ويتعلق الأمر بزيادة الألف بعد الواو في قوله تعالى: {لن ندعوا}،وقد ارتأيت لتحقيق ذلك أن أتحدث أولا عن علاقة الرسم بقواعد الإملاء، ثم أثبت أن الرسم توقيفي لا يجوز مخالفته حتى وإن خالف قواعد الإملاء، ثم بعد ذلك أقدم تفسيرا لزيادة تلك الألف بعد الواو.
المبحث الأول: بين الرسم القرآني وقواعد الإملاء، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في الرسم القرآني وقواعده ومخالفته لقواعد الإملاء.
قبل الحديث عن مخالفة الرسم القرآني لقواعد الإملاء يجدر بنا أولا تعريف هذا الرسم والتعرف على قواعده، قال محمد طاهر الكردي في كتابه تاريخ القرآن الكريم (?): (يراد برسم المصحف ما كتبه الصحابة من الكلمات القرآنية في المصحف العثماني على هيئة مخصوصة لا تتفق مع قواعد الكتابة).ويحدثنا محمد طاهر الكردي عن قواعده فيقول (?) (وينحصر أمر هذا الرسم في ست قواعد وهى: الحذف، والزيادة، والهمز، والبدل والوصل، والفصل، وما فيه قراءتان فكتب على إحداهما وقد جمع هذه القواعد العلامة المرحوم الشيخ محمد العاقب الشنقيطى بقوله:
الرسم في ست قواعد استقل * حذف زيادة وهمز وبدل
وما أتى بالوصل أو بالفصل * موافقا للفظ أو للاصل
وذو قراءتين مما قد شهر * فيه على احداهما قد اقتصر
وشرح هذه القواعد يطول)
وبعد التعرف على الرسم القرآني نقول إن: طريقة وأسلوب الكتابة التي كان كتُب بها المصحف ليستْ هي نفسَ الطريقة التي نكتب بها في عصرنا، فقواعد الإملاء والكتابة مختلفة، ومَن اطَّلع على المخطوطات القديمة يعلم الفرْقَ بين الطريقتين، فمن الجهل أن نحاكم الرسمَ القرآني لقواعدَ إملائيَّةٍ وكتابيَّة نشأتْ بعده، والقواعد الإملائية من الأمور الاصطلاحية التي اتَّفق عليها العلماء بقَصْد أن تكون وسيلةً تساعدهم في تناقُل العلم وغيره من أوجه النشاط الحضاري، ولَمَّا كان الرسم الإملائي أمرًا اصطلاحيًّا، فيجوز أن يقع فيه اختلاف بين العلماء، كما يجوز أن يكون عُرضةً للتغيير والتطوير على مرِّ العصور بحسب ما تقتضي الحاجة والمصلحة.
ولكن السؤال المهم لماذا رسم المصحف بهذه الطريقة المخالفة لقواعد الإملاء؟ هل لأن الصحابة كانوا يجهلون تلك القواعد؟ أم ماذا؟
فنقول لا، بل نحن نعتقد اعتقادا جازما بأن الصحابة كانوا يعرفون قواعد الاملاء والكتابة حق المعرفة وهاكم الدليل على ذلك.
المطلب الثاني: في معرفة الصحابة لقواعد الاملاء والكتابة.
يظن كثير من الناس أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يعرفون قواعد الاملاء وأصول الكتابة ويستدلون على هذا برسم المصحف العثماني، وممن قال بهذا ابن خلدون في مقدمته، وإليكم الرد على هذه المزاعم الباطلة من وجوه ثلاث (?):
الوجه الأول: قال الألوسى في تفسيره روح المعاني ما نصه: والظاهر أن الصحابة كانوا متقنين رسم الخط عارفين ما يقتضي أن يكتب وما يقتضي أن لا يكتب وما يقتضي أن يوصل وما يقتضي أن لا يوصل إلى غير ذلك لكن خالفوا القواعد في بعض المواضع لحكمة. اه
قوله في بعض المواضع أي من القرآن الكريم ورسم كلماته فالآلوسي وهو العالم المتبحر وصاحب التفسير الكبير لا يقول هذا الا بعد النظر والتحقيق وان لم يذكر الشواهد التى تؤيد قوله.
الوجه الثاني: مما لا يخفى على أحد ان الصحابة كانوا يراسلون الملوك والامراء في مهمات الامور وكانوا يكتبون فيما بينهم العقودوالمستندات من بيع وشراء وضمان وعطاء، فلو كتبوا هذه الامور على غير قواعد الاملاء والكتابة لادى ذلك إلى الالتباس والخطأ في فهم مرادهم مع ان الحروف والكلمات ما وضعت الا لتدل على الكلام الملفوظ فان اختفلت كتابته اختلف اللفظ فاختلف المعنى فاختلط الامر عليهم.
وأي دليل أعظم على نباهة العرب قبل اختراع الحركات " التشكيل " من تفرقتهم في الكتابة بين عمر وبين عمرو بزيادة الواو في الاسم الا خير لئلا يحصل لبس واشتباه، فلو تأملت لم اختاروا الواو علامة للتفرقة بين الاسمين دون غيرها من الأحرف الهجائية لظهر لك ذكاؤهم المفرط وقوة تفكيرهم في ذلك.
الوجه الثالث: إن الخط الكوفى وصل إلى الحجاز من أهل الحيرة والأنبار (وهما من مدن العراق) ووصل اليهما من طارئ طرأ عليهم من اليمن، فالصحابة رضى الله عنهم كانوا يكتبون بالخط الكوفى الذى هو فرع من الخط الحميرى العربي القديم الذى كان منتشرا باليمن وليس من المعقول ان الخط الحميرى الذى هو اساس الخط العربي لا يكون له اصول وقواعد معروفة، بل ان للخطوط التى هي اقدم من الخط الحميرى بآلاف السنين قواعد تامة لا تخفى على من تخصص بفك طلاسمها وترجمتها في وقتنا الحاضر وذلك كالخط الهير وغليفى بأنواعه الثلاثة والفينيقى والآشوري والسرياني.
فمن خلال ما سبق يتضح لنا جليا معرفة الصحابة بقواعد الإملاء ولكن لماذا خالفوها في كتابة المصحف؟
هذا ما سنتعرض له في المبحث الثاني.
(يتبع)