ـ[عائشة]ــــــــ[11 - 06 - 2008, 10:06 ص]ـ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه.
تختلف فوائدُ الاعتراض بحسب قَصْد المتكلِّم، وسياق الكلام؛ مِنْ قصد الاعتناء، والتَّقرير، والتَّوكيد، وتعظيم المُقسَم به والمخبَر عنه، ورَفْع توهُّم خلاف المراد، والجواب عن سؤال مُقدَّر، وغير ذلك.
فمِنَ الاعتراضِ الَّذي يُقصَدُ به التَّقرير والتَّوكيد: قولُ الشَّاعر:
لَوَ انَّ البَاخِلِينَ -وَأَنتِ مِنْهُمْ- * رَأَوْكِ تَعَلَّمُوا مِنكِ الْمِطَالا
ومِمَّا يُقصَدُ به الجواب عن سؤال مُقدَّر: قولُ الآخر:
فَلا هَجْرُهُ يَبْدُو -وفي اليأسِ رَاحَةٌ- * وَلا وَصْلُه يَصْفُو لَنَا فَنُكَارِمُهْ
فَقَولُه: " وفي اليأس راحةٌ ": جوابٌ لتقدير سُؤال سائلٍ: " وما يُغني عنك هجره؟ "؛ فقال: " وفي اليأس راحةٌ "؛ أي: المطلوب أحدُ أمرَيْن: إمَّا يأسٌ مُريح، أو وِصالٌ صافٍ.
ومِنَ اعتراض الاحتراز: قولُ الجَعْديِّ:
أَلا زَعَمَتْ بَنُو جَعْدٍ بِأَنِّي * -وقَدْ كَذَبُوا- كَبيرُ السِّنِّ فَانِي
ومنه: قولُ نُصَيْب:
فَكِدتُّ -وَلَمْ أُخْلَقْ مِنَ الطَّيْرِ- إنْ بَدَا * سَنَا بَارِقٍ نَحْوَ الحِجَازِ أَطيرُ
فقوله: " وَلَمْ أُخْلَقْ مِنَ الطَّير ": لِرَفْعِ استفهامٍ يتوجَّه عليه على سبيل الإنكار؛ لو قال: " فكدتُّ أطير "؛ فيقال له: وهل خُلِقْتَ مِنَ الطَّير؟! فاحترز بهذا الاعتراض.
قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: وعندي أنَّ هذا الاعتراض يُفيد غيرَ هذا؛ وهو: قُوَّةُ شَوْقِهِ ونُزوعه إلى أرض الحِجاز؛ فأخبر أنَّه كاد يطير، علَى أنَّه أبعدُ شَيْءٍ مِنَ الطَّيَران؛ فإنَّه لَمْ يُخْلَقْ مِنَ الطَّير، ولا عَجَب طَيَران مَنْ خُلِقَ مِنَ الطَّير، وإنَّما العَجَبُ طَيَرانُ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ مِنَ الطَّير؛ لشدَّة نُزوعه وشَوقه إلى جهة محبوبِه؛ فتأمَّلْهُ.
ومِنْ مواقع الاعتراض: الاعتراضُ بالدُّعاء؛ كقول الشَّاعر:
إنْ تَمَّ ذَا الهَجْرُ يا ظَلُومُ -وَلا * تَمَّ- فَمَا لِي فِي العَيْشِ مِنْ أَرَبِ
وقول الآخَر:
إنَّ سُلَيْمَى -واللهُ يَكْلَؤُهَا- * ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا
وقول الآخَر:
إنَّ الثَّمَانِينَ -وَبُلِّغْتَهَا- * قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلَى تُرْجُمَان
ومنه: الاعتراضُ بالقَسَمِ؛ كقَوْلِهِ:
ذَاكَ الَّذي -وأَبيكَ- يَعْرِفُ مَالِكًا * والحقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ البَاطِلِ
ومِنَ اعتراض الاستعطاف: قولُه:
فَمَنْ ليَ بِالعَينِ الَّتي كُنْتَ مَرَّةً * إِلَيَّ بِهَا -نَفْسِي فِدَاؤُكَ- تَنْظُرُ
فاعترض بقوله: " نَفْسِي فِدَاؤُكَ " استعطافًا.
وأحسنُ ما يقع الاعتراضُ إذا تضمَّن تأكيدًا، أو تنبيهًا، أو احترازًا؛ كقولِه تعالى: ?وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?؛ فاعترض بين المبتدإِ والخبر بقوله: ?لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا?؛ لِمَا تضمَّنه ذلك مِنَ الاحتراز الدَّافع لتوهُّم مُتوهِّم أنَّ الوعدَ إنَّما يستحقُّه مَنْ أتَى بجميع الصَّالحات؛ فَرَفَعَ ذلك بقوله: ?لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا?. وهذا أحسنُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قالَ: إنَّه خَبَرٌ عَن " الَّذِينَ آمَنُوا "، ثمَّ أخبر عنهم بخبرٍ آخَر؛ فهُما خَبَران عَنْ مُخْبَرٍ واحدٍ؛ فإنَّ عَدَم التَّكليف فَوْقَ الوُسْعِ لا يخصُّ الَّذين آمَنوا، بل هُوَ حُكْمٌ شاملٌ لجميع الخَلْق، مَعَ ما في هذا التَّقدير مِنْ إخلاءِ الخَبَرِ عَنِ الرَّابط، وتقدير صفةٍ محذوفة؛ أي: نَفْسًا مِنْهُم، وتعطيل هذه الفائدة الجليلة.
ومِنَ الاعتراضِ الَّذي هُوَ في أعلَى دَرَجات الحُسْنِ: قولُه تعالى: ?وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ?؛ فاعترض بذِكْرِ شأن حَمْلِهِ ووَضْعِه بين الوصيَّة والمُوصَى به؛ توكيدًا لأمر الوصيَّة بالوالدة؛ الَّتي هذا شأنها، وتذكيرًا لوَلَدِها بحقِّها، وما قاسَتْهُ مِنْ حَمْلِهِ ووَضْعِهِ ممَّا لَمْ يتكلَّفْهُ الأبُ.
¥