ثم يربط شوقي بين المكان والقلب في علاقة دلالية لغوية تراتبية، والنتيجة أن الزمان بقدرته الفائقة على النسيان لن يشفي جرح هذا المكان عند الشاعر.
فالانتقال بالمكان من فلسفة المتاجرة عند البحتري، إلى فلسفة الحوار عند شوقي بواسطة الاستعارات، يفتح أفقًا جديدًا في التفكير بالاستعانة بعلم العلامات (السيمياء)، كما أن الانتقال بالمكان من الفكر النفعي (البيع والشراء) عند البحتري والشعراء القدماء لكونه يرتبط بالمحبوبة، إلى فكرة الانتماء عند شوقي، لم يتم بقرار اعتباطي، أو حتى إرادي، وإنما هو تجربة تفكير طويلة استغرقت زمنًا تاريخيًّا تعادل الفترة الزمنية التي تفصل بين هذه النصوص، فالمكان ليس له معنى خاص في كل السياقات، وإنما يكتسب معناه الخاص من النظرة الفلسفية أو الايديولوجية للشاعر نفسه لهذا المكان، وعلى هذا لا يمكن النظر إليه بوصفه جزءَا من الطبيعة الجغرافية تكوّن معناه من مجموعة العلامات فحسب، بل بوصفه موضوعًا تتناوله الذات الشاعرة وفق إرادتها وطلبها للمعنى، والتحليل السيميائي، يبحث في نظام العلاقات بين الكلمة والعالم وذات الشاعر التي تقرأ هذا العالم من حيث هو علامات تشكّلها وترسلها الذات/ الشاعر، وهذه العلاقات ستكون متحرّكة ومتغيّرة بحكم صيرورة المكان ذاته، متجددة ومتصارعة بفعل استعارات الشاعر التي تمنح المكان قيمته الحقيقية دخل سياق النص.
الاستعارة وعلامات الزمن:
نتناول مفردات الزمن هنا بوصفها عنصرًا أساسيًّا في شبكة العلاقات اللغوية التي تفتح الزمن على الأزمنة المتحرّكة في الثقافة، والتطورات المعرفية التي تطرأ على الزمن في النصين المرجعي والمعارض، على افتراض أنه إذا كان النص المرجعي يمتلك القدرة على المعالجة المعرفية والثقافية للزمن؛ فإن النص المعارض يشتمل على تأسيس معرفي يرتكز على معانٍ مختزنة لعناصر ايديولوجية سابقة، وعناصر معرفية جديدة. ويكاد ينحصر المستعار له في هذا النوع من الاستعارات في قصيدة البحتري في ألفاظ ثلاثة مفردات، هي: الدهر (21)، الليالي (22)، الأيام (23).
يقول البحتري:
2 ـ وَتَمَاسَكْتُ حِينَ زَعْزَعَني الدَّهْرُ الْتِمَاسًا مِنْهُ لِتَعْسِي وَنَكْسي
18 ـ نَقَل الدّهْرُ عَهْدهُنَّ عَن الجِدَّةِ حَتى رَجَعْنَ أَنْضَاءَ لُبْسِ
39 ـ فَهو يُبْدِي تَجَلّدًا وَعَلَيْهِ كَلْكَلٌ مِنَ كَلاكِلِ الدّهْر مُرْسِي
مفردة الدهر في الأبيات الثلاثة علامة تحيلنا على معنى القوة، والقوة هنا تنطوي على معنى سلبي، لأن الدهر بقوته يحول دون تحقيق هدف الشاعر، فهو علامة على التعس والنكس في البيت/1، وعلامة على التراجع، وقدرته على تبدّل حال الشاعر إلى الأسوأ في البيت/2، وعلامة على العبء الثقيل في البيت/3 والسؤال الآن: لماذا حرص الشاعر على هذا النوع من الاستعارات للدهر حتى بدا لنا كقوة سلبية تحول دون تحقيق هدف الشاعر، فالدهر يتميز بصفة واضحة وهي الدوام والاستمرارية، على عكس الأيام والليالي مثلاً وهنا تبدو أهمية الإحالات، فالبحتري يعمد في إشارته اللغوية (الدهر) إلى ماهو خارج اللغة (القوة بمعناها السلبي) أي القوة التي يمتلكها هذا الشيء الآخر، ويفتقدها الشاعر نفسه لأنه إذا كانت لدينا تجربة نريد نقلها إلى اللغة؛ " فإن اللغة لا تتجه نحو معنى مثالي، بل تحيل كذلك إلى ما يوجد في الخارج ... فلو لم تكن اللغة تحيل بعمق إلى الخارج، فهل ستكون ذات معنى؟ كيف يمكننا أن نعرف أن العلامة تمثّل شيئًا ما، إذا لم تكتسب توجهها نحو الشيء الذي تمثله من استعمالها في الخطاب" (25). وهذا يجعلنا نتساءل: هل ينبغي مراجعة ما نعرفه عن الدهر؟ وهل يقف الدهر حقًا حائلاً بين الإنسان وطموحاته وأحلامه؟ متى يحل الإنسان لغز الدهر؟ لماذا حرص الشاعر في هذا السياق بالتحديد على إبراز قوة الدهر السلبية وليس الإيجابية؟. الإجابة عن هذه التساؤلات غير موجودة في الأبيات، ولكن الاستعارة تحيل عليها، لأن الاستعارة تفتح الفكر لاستيعاب كافة الإجابات، والاحتمالات، والإحالات. ويتجلى أهمية الدور السيميائي لهذا النوع من الاستعارات في دراسة الصيغ المختلفة التي تربط التعبير اللغوي بالمعنى داخل سياق النص من خلال إحالته إلى العالم الخارجي، أي إلى القوة الإبيستمولوجية لهذه العلامات الاستدلالية.
مثال لشوقي شوقي:
¥