ملتقي اهل اللغه (صفحة 3039)

مثل نصوص المعارضات، حيث يدخل النص المعارض في علاقة اقتداء بالنص المرجع، وتكون الاستعارة هي وسيلة النص المعارِض لإقامة هذه العلاقة. ويُنظر إلى النص المعارض/ سينية شوقي، بوصفه قرينة لنص البحتري، قرينة التحول في كتابة النص، وتلعب الاستعارة الدور الأساس في لعبة التحول هذه، ولكن، هل يمكن اعتبار هذا التحول قرينة على رفض النص المعارِض لحاضره الشعري، بمعنى رغبته في الانتقال من عالم التجربة الحي إلى عالم التجربة التراثية؟ أم أن نص شوقي يدخلنا في دائرة التقليد؟ بمعنى أن نصوص المعارضات هي مجرد تكرار لنصوصها المرجعية!.

الاستعارة وعلامات المكان:

نتناول المكان هنا بوصفه واقعة سيميائية؛ لا تتجسد في المحاكاة التقليدية للواقع، بل بوصفه حاملاً لدلالات ثقافية ولغوية مرجعية نسقيّة أحيانًا، وتخيليّة معرفيّة أحيانًا أخرى، ومن ثم يمكن اعتباره عنصرًا مهمًا له قدرته الخاصة على تداعي الأفكار؛ ولذا فإن الوظيفة الشعرية للمكان تعد في جوهرها معرفية جمالية إذا ما بحثنا في علاقتها بالعالم العام الذي أنتجها، والعالم الخاص بخيال الشاعر الذي نظمها، مثال لذلك قول البحتري:

6 ـ وَاشتِرَائي العِرَاقَ خُطَّةَ غَبْنٍ بَعْدَ بَيْعِي الشَّامَ بَيْعَةَ وَكْسِ

والبنية التركيبية للاستعارة في الشطر الأول، تتألف من ثلاثة أركان: المستعار له، وهو العلامة/ المكان (العراق) في تجارة البيع و (الشام) في الشراء، المستعار منه وهو السلعة، المستعار وهو عملية البيع أو الاستبدال. فالمكان/ العلامة يتحول إلى سلعة من خلال عملية تجارية خاسرة في الشراء/ العراق، أو البيع/ الشام، وخسارته في الشراء (خطّة غُبنٍ) تمثلت في الخداع، وخسارته في البيع (بيعة وكسٍ) تمثلت في التخلّي عن المكان الذي يقيم فيه، والاستعارة في بيت البحتري تمثل علامة على أن المكان أصبح غير صالح للإقامة، وأن الشعر تورّط في عمليتي الرحيل (بيعي الشام)، والإقامة (اشترائي العراق) مع المكان، فالشاعر خسر عندما قرر الرحيل (البيع)، وخسر أيضًا عندما قرر الإقامة (الشراء) في بلاد العراق، وهذه الاستعارة تتأسس على فكرة الاستبدال، وهذا النوع من الاستعارات له قدرته الخاصة بعمل قفزات داخل مجال توليد الدلالة، حيث تجعل عملية التأويل الاستعاري على المستوى السيميائي ممتدة ومتشعّبة. وهذه الممارسات الحياتية وطريقة تعبير الشاعر عنها شبيهة بممارسات الشعراء الجاهليين في مقدمات قصائدهم؛ لكنها في قصيدة البحتري تمثِّل خطوة انتقالية في النظر إلى المكان. فالشاعر الجاهلي غالبًا ما كان يستسلم لأفكاره السوداوية من فقدان الأمل في العثور على المحبوبة/ المرأة، فيطوي الصحراء شرقًا وغربًا حزنًا على فراقها، أما البحتري؛ فنراه مستسلمًا للأفكار نفسها من فقدان الأمل في الحصول على المحبوب، وهو الوطن ـ ها هنا ـ ولكن البحتري يبحث عن الوطن البديل من خلال عملية تجارية خاسرة في طرفيها (البيع/ الشراء). ونظرة البحتري للمكان/ الوطن تحيل على تشكيل مسبق، بواسطته يتحول الوطن إلى سراب ممتد، ذلك أن العالم الذي يعيش فيه لن يمكنه من بلوغ وطنه المنشود، ومن ثم يمكننا القول بأن المكان في نص البحتري يمثِّل عنصرًا مهمًا لتداعي الأفكار،

وإذا ما انتقلنا إلى شوقي لمناقشة علاقة الاستعارة بالعلامة/ المكان في قصيدته، يقول شوقي:

4 ـ وسَلا مِصْرَ هَلْ سَلا القَلْبُ عنْها أَو أسَا جُرْحُهُ الزّمَان المُؤسِّي

البنية التركيبية للاستعارة تتألف في هذا البيت من: مستعار له وهو المكان/ العلامة (مصر)، مستعار منه وهو الإنسان، المستعار وهو صفة الكلام.

المكان/ العلامة، يتحول هنا إلى إنسان يتكلّم من خلال عملية حوارية، ترتكز على السؤال الذي يحمل في ظاهرة الاستفهام، ويحمل في دلالته الإجابة بالإثبات، ونلمح حرص الشاعر على تحضّر المكان على طريقته الخاصة، لا ليجعله صالحًا للإقامة فحسب، بل ويجعله مؤهلاً لإقامة الحوار، والفعل "سلا" من الناحية اللغوية، يمكن النظر إليه بوصفه علامة على للفعل " قفا" عند الشعراء الجاهليين، والفرق بينهما أن شوقي يسأل المكان، أما الشاعر القديم فكان يقف على المكان، وهنا يتحول وعي شوقي بالمكان من حلم أسطوري عند الشعر القديم، إلى وعي مركب بالمكان/ الوطن بمعناه الروحي وليس بمعناه الجغرافي، ومن

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015