ملتقي اهل اللغه (صفحة 2972)

إن الضرورات والظروف التى جعلت الإمام ابن تيمية يقف تلك الوقفة من المجاز فى كتابه الإيمان، وفى رسالته المدنية، هى فى الواقع ظروف جد خطيرة، ومن يقف على خطورتها يسوغ للشيخ الإمام وقوفه ضدها، والعمل بكل الطاقة على دفعها وكف شرها. ولو أدى ذلك إلى إنكار المجاز، إذ ليس هو عقيدة أو معلوم من الدين بالضرورة. وإنما هو مذهب قولى، وفن من فنون البيان لا يفسق منكره ولا يذم.

ومجمل ما يمكن تصوره وكثرة التأويلات التى تعدى بها قائلوها على النصوص الشرعية. وتجاوزوا بها مرحلة المعقول المقبول إلى المدخول المنحول الذى يكاد يذهب بكل الحقائق التى جاء بها الإسلام وأقرها. فلم تكن المسألة مسألة تأويل مجازى وإلا لهان الخطب. وإنما طم شرها وعم وأغرب قائلوها كل الإغراب حتى صارت بعض الألفاظ ليس لها مدلول محقق فى خضم تلك التأويلات العمياء ([142]).

ثالثا: ما بعد ابن تيمية

الإمام محمد أمين الشنقيطى

ما ذكره الإمام الشنقيطى بأن المجاز لم يقل به الرسول، ولا الصحابة فيه شطط فى القول، فليس المجاز عقيدة ولا عبادة حتى يتوقف الأمر فيها على الإذن الشرعى. ولو صح هذا القول لوجب على المسلمين الآن أن يلقوا كل كتب التراث فى البحر. ولبطلب آلاف المصطلحات العلمية فى العلوم والفنون والآداب. فى التفسير والحديث، والأصول والفقه، وفى اللغة. وإلا فأين كانت هذه المصطلحات فى عهد الرسول الكريم وصحابته الأبرار؟

إن المجاز واحد من العلوم والفنون الإسلامية له نشأة وتطور ونضج واستقرار. فما جاز عليها جاز عليه، وإلا خرجنا إلى التحكم والاعتساف.

لا يقال: إن هذه العلوم كان لها نواة فى عصر الصحابة والتابعين بخلاف المجاز.

لأننا نقول المجاز كانت له نواة كذلك أسهم فى غرسها صحابة أجلا، ثم أخذت تنمو حتى صارت دوحة وارقة الظلال.

والشيخ الشنقيطى وإن أنكر المجاز قولا ونظرا، فقد أقر به عملا وسلوكا كالإمامين ابن تيمية وابن القيم، وهذا واضح فى تفسيره (أضواء البيان) ([143]).

الخاتمة

الحمد الله الذى خلق فسوى وقدر فهدى، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد

فإن قضية المجاز شغلت فكر بعض علمائنا على مر العصور، لكننا نجد أن الغالبية العظمى من هؤلاء العلماء كانوا مجوزين له فى اللغة وفى القرآن وفى الحديث النبوى الشريف، لأن القرآن الكريم نزل بلغة العرب وفق قواعدهم، والصحابة قد فهموه حق الفهم، ولم يعترض أحدهم على اشتماله على المجاز.

وأن الذين أنكروه كانوا متشددين فى رأيهم هذا، وإن كانت نية فيه الدفاع عن الإسلام من هؤلاء الذ ين جعلوا للقرآن ظاهرا وباطنا ولكنهم بالغوا فى ذلك حتى أنكروا المجاز وحججهم فيه واهية مردودة.

الرأى الحق

أن المجاز واقع فى اللغة وفى القرآن والحديث حيث يطلبه المقام ويقتضيه، ومع إقرارنا للمجاز وأهميته فى صياغة الأساليب، فإن المختار هو التوسط والاعتدال فى استخدامه. كما قال أحد الباحثين: «ولا شك أن قضية الحقيقة والمجاز قد شغلت العلماء زمنا طويلا ما بين منكر للمجاز كلية أو مصدق له تماما. ولكننا فى كل ذلك نشعر بمدى التكلف الذى يتورط فيه من ينكره كلية كابن تيمية، ومن يبالغ فى وجوده ويغرق اللغة كلها فى المجاز كابن جنى. وأعدل الآراء فى هذه القضية رأى ابن الأثير لتمشيه مع المنطق السليم وعدم الجنوح نحو هذا الطريق أو ذاك، نقرأ له فى ذلك قوله: إن كلا المذهبين فاسد عندى، وليست اللغة كلها مجازا وا كلها حقيقة، وإنما فيها الحقيقة والمجاز» ([144]).

المصادر والمراجع

1) القرآن الكريم.

2) الإتقان فى علوم القرآن- السيوطى- دار إحياء التراث- القاهرة.

3) الأحكام فى أصول الأحكام- لابن حزم – مكتبة عاطف- القاهرة.

4) أثر النحاة فى البحث البلاغى، د/عبد القادر حسين، طبعة دار نهضة مصر 1975م.

5) أسرار البلاغة للإمام عبد القاهر الجرجانى، تحقيق هـ. ريتر، الطبعة الثالثة سنة1983هـ.

6) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرافعى، الطبعة الثالثة، طبع على نفقة أحمد فؤاد الأول ملك مصر، طبع بمطبعة المقتطف والمقطم بمصر سنة (1346 هـ - 1928م)

7) الأعلام – خير الدين الزركلى- دار العلم- بيروت.

8) الإيمان، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، مكتبة الإيمان، القاهرة، الطبعة الثانية سنة 1392هـ.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015