ملتقي اهل اللغه (صفحة 2967)

وثانيتهما: لو سلمنا أن فى القرآن مجازا- والقرآن كلام الله- لقيل لله (متجوز) وهذا الوصف لا يطلق على الله باتفاق علماء الأمة.

المرحلة الثانية: مرحلة الإمام ابن تيمية

«حين يُذكر الإمام ابن تيمية بين منكرى المجاز مطلقا وفى القرآن الكريم فإنه يمثل فى هذا المقام قطب الدائرة. لأن من أنكر المجاز قبله لم يتحمسوا للإنكار حماسته، ولم يثوروا ثورته ولم ينزحوا نزحه، ولم يقلبوا وجوه القول تقليبه. ولم يكن بين أيديهم من أسباب الإنكار ما كان بين يديه. والذين أنكروا المجاز من بعده، فى فلكه داروا، وعلى أوتاره عزفوا» (([97].

سبب إنكار ابن تيمية للمجاز:

«كان السبب فى تلك الحملة الضارية التى شنها على القول بالمجاز والقائلين به من سلف الأمة هو دخول المجاز فى مباحث العقيدة والتوحيد. وتعلقه بصفات الله عز وجل. وقد تطرف قوم من علماء الكلام فأوسعوا دائرة التأويل فى كتاب الله، وادعوا أن لكل لفظ فى القرآن ظاهرا وباطنا، وحمَّلوا الألفاظ ما لم تحمل وتعسفوا فى التأويل» - كما قال الإمام عبد القاهر من قبل. وذكر مثلا لفوضاهم فى التأويل. وعبثهم فى استنباط المعانى بما لا يؤيده نقل، ولا يسلم به عقل ولا يرضاه ذوق (([98]

ودخول المجاز فى مجال العقيدة والتوحيد بعد أن كان قضية أدبية نقدية، أو لغوية جمالية، هو الذى ألهب نار الحماسة عند الإمام ابن تيمية لأنه رأى فى مثل تأويل «يد الله» بالقدرة تعطيلا لصفة من صفاته، وهكذا كل ما أضيف إلى الله مما يوهم ظاهره التشبيه والتجسيم، كالجهات والمعية والفوقية والاستواء والمجىء والنزول.

ومصطلح «التعطيل» هذا ما أظنه إلا من توليدات الإمام ابن تيمية فإن لم يكن من توليداته واختراعاته فإنه لم يشتهر ويعرف إلا عنه ([99]).

والدليل على ثورة الإمام ابن تيمية على فوضى التأويل أنه لم يتعرض للحملة على المجاز إلا فى مواطن الحديث عن العقيدة، ولهذا فإننا نراه يتحدث عن المجاز وإنكاره فى موضعين من مؤلفاته. أحدهما: فى مجموع الفتاوى، وثانيهما: فى كتابه الموسوم بـ (الإيمان) وفى كلا الموضعين يتحدث عن العقائد والتوحيد. وقد عرض لموضوع المجاز فى كتابه (دقائق التفسير) (([100].

ما اعتمد عليه الإمام ابن تيمية فى إنكار المجاز:

من خلال مراجعة ما كتبه ابن تيمية بخصوص المجاز فى كتابه (الإيمان) وجدناه قد اعتمد فى إنكار المجاز فى اللغة بعامة، وفى القرآن الكريم بخاصة على ما يأتى:

1) أن سلف الأمة لم يقولوا به مثل الخليل ومالك والشافعى وغيرهم من اللغويين والأصوليين وسائر الأمة، فهو إذن حادث؟!

2) إنكاره أن يكون للغة وضع أول تفرع عنه المجاز باستعمال اللفظ فى غير ما وضع له كما يقول مجوزو المجاز؟!

3) إنكار التجريد والإطلاق فى اللغة. حتى يقال إن الحقيقة ما دلت على معناها عند الإطلاق والخلو من القرائن، والمجاز ما دل على معناه بمعونة القيود والقرائن.

4) مناقشة النصوص التى استدل بها مجوزو المجاز على وقوع المجاز فى اللغة وفى القرآن.

المرحلة الثالثة: ما بعد ابن تيمية

الإمام ابن القيم الجوزية (ت 751 هـ) (([101]

حمل الإمام ابن قيم الجوزية حملة عنيفة على المجاز وعلى مثبتيه، وسمى المجاز طاغوتا، وهذا فى كتابه (الصواعق المرسلة). وأفرغ طاقة هائلة فى إنكاره، وتوسع فى أسباب المنع توسعا رأسيا وأفقيا. فبعد أن احتج بما احتج به شيخه ابن تيمية راح يضيف إلى أسباب المنع أسبابا حتى أوصلها إلى ما يزيد على خمسين وجها ([102]).

حاكى شيخه فى أن السلف لم يقولوا بالمجاز، وأن أبا إسحاق نفاه فى اللغة مطلقا، وأن داود بن على الظاهرى وابنه أبو بكر منعاه فى القرآن، وأن جماعة من أصحاب أحمد منعوه فى القرآن أما الإمام نفسه فله روايتان رجح ابن القيم رواية المنع منهما ... وغير ذلك مما ذكره شيخه ([103]).

وكأن ابن القيم قد استشعر هذا ضعف هذه الحُجج فراح يخوض بحرا من الفروض الجدلية ثم يبدئ ويعيد على نحو لم يعرف لأحد ممن قال بإنكار المجاز أو نسب إليه هذا القول ([104]).

إن منهج ابن القيم يغلب عليه الجدل والمحاكاة اللفظية، وهذا المنهج عديم الجدوى فى مجال البحث والاستدلال، وعن طريقه يمكن إثبات الشىء ونقيضه.

ولعل الإمام رضى الله عنه كان يريد أن يلفت نظر تلاميذه إلى خطورة الجدل اللفظى، وبين لهم عقمه فى الاستدلال فصنع ما صنع. وهكذا سلك الإمام ابن القيم منهجا جدليا فى إنكاره المجاز، لذلك تضخمت الأسباب عنده فبلغت – إجمالا- اثنين وخمسين سببا ([105]).

نرى أن الإمام ابن القيم أنكر المجاز نظرا وجدلا، وأقر به عملا وسلوكا، وقد صنف كتابا كاملا فى علم البيان سماه (الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان) ([106]).

الإمام محمد أمين الشنقيطى (ت 1393هـ) (([107]

وفى العصر الحديث وضع الشيخ الشنقيطى رسالته (منع جواز المجاز فى المنزل للتعبد والإعجاز)، ولم يخرج عمّا قال سابقوه فى المنع، سوى أنه قال: (إن المجاز لم يقل به الرسول، ولا الصحابة) ([108]).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015