تصدى الإمام أبو حامد الغزالى للبحث فى الحقيقة والمجاز، وكانت مجالات فكره. وكتاباته تملى عليه التصدى لمثل هذه المباحث. وبخاصة فى مجالى الكلام وعلم أصول الفقه، اللذين أسهم فيهما بنصيب وافر من العطاء الفكرى العميق المستنير. وهو فيها إمام ضالع، وعَلَم يهتدى به. تكلم الغزالى عن المجاز فى كتابه (المستصفى فى علم الأصول) ([83]).
عرّف الإمام الغزالى فى كتابه (المستصفى) المجاز بقوله: «والمجاز ما استعملته العرب فى غير موضوعه» ([84])، معنى هذا أن الإمام الغزالى مقر بالوضع اللغوى الأول المتفرغ عنه النقل إلى المعنى المجازى، والنقل هو عمدة المجاز وإن لم يتحقق به وحده ([85]).
وينتقل الإمام الغزالى إلى ذكر العلامات التى يُعرف بها المجاز على طريقة علماء الأصول وهى عندهم محصورة فى أربع قال فيها:
«وقد يُعْرَفُ المجازُ بإحدى علامات أربع الأولى: أن الحقيقة جارية على العموم فى نظائره، إذ قولنا عالم لما عُنِى به ذو عِلْمٍ صَدَقَ على كل ذى علم وَقَوْلُهُ:] وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ [يصح فى بعض الجمادات لإرادة صاحب القرية، ولا يقال: سَلْ البساط والكوزَ، وإن كان قد يقال سل الطلل والربع لقربه من المجاز المستعمل» ([86]).
وهذا الفرق صحيح لأن الحقيقة موضوعة وضعا كليا عاما. أما المجاز فموضوع وضعا خاصا حين توجد المناسبة بين طرفيه ([87]).
«الثانية: أن يُعرف بامتناع الاشتقاق عليه، إذ الأمر إذا استعمل فى حقيقته اشتق منه اسم الآمر وإذا استعمل فى الشأن مجازا لم يشتق منه آمر، والشأن هو المراد بقوله تعالى:] وما أمر فرعون برشيد [وبقوله تعالى:] إذَا جَاءَ أَمْرُنَا [([88]).
الثالثة: أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيُعْلَم أنه مجاز فيأحدهما، إذ الأمر الحقيقى يُجمع على أَوَامِرَ، وإذا أُريد به الشأن يُجْمَعُ على أُمُورٍ ([89]).
ويقول فى الرابعة:
الرابعة: أن الحقيقى إذا كان له تعلُّق بالغير، فإذا اسْتُعْمل فيما لا تعَلُّق له به لم يكن له متعلق كالقدرة إذا أُريد بها الصفة كان لها مقدور، وإن أُرِيد بها المقدور كالنبات الحسن العجيب، إذ يقال: انظر إلى قدرة الله تعالى أى إلى عجائب مقدوراته، لم يكن له متعلق، إذ النبات لا مقدور له ([90])».
ـ[عمر خطاب]ــــــــ[01 - 03 - 2009, 04:53 م]ـ
المنكرون
إنكار المجاز بعامة مر بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: ما قبل الإمام ابن تيمية
إنكار المجاز قبل عصر الإمام ابن تيمية معزو إلى جماعة، وهم لا يكادون يتعدون عدد أصابع اليد الواحدة، وإن كان من بينهم إمام مذهب فقهى معروف. فالأصوليون يعزون هذا القول إلى داود الظاهرى إمام مذهب الظاهرية وابنه أبى بكر محمد الظاهرى.
ومن غير الظاهرية ينسب هذا القول إلى: أبى الحسن الجزرى، وأبى عبد الله بن حامد، وأبى الفضل التميمى من الحنابلة، ومحمد بن خويز بن منداد من المالكية ([91])، ومنذر بن سعيد البلوطى (ت 355هـ) ([92]). ويعزى كذلك إلى أبى على الفارسى.
ومن الشافعية إلى أبى العباس الطبرى المعروف بابن القاص، ومن المعتزلة أبى مسلم الأصبهانى.
ويعزى هذا القول كذلك للرافضة كما عزى إلى للظاهرية هؤلاء هم كل ما يعزى إليهم إنكار المجاز فى القرآن، وفى الحديث النبوى كذلك ([93]).
وفى هذه المرحلة لم يكثر المانعون فى تعداد أسباب المنع، ولم يطنبوا فى شرحها والتمثيل لها. بل لهم فى ذلك عبارات موجزة كل الإيجاز ([94]).
ومانعو المجاز قبل الإمام ابن تيمية لم يتركوا لنا مصنفات فصلوا فيها القول فى أسباب منع المجاز وإنما نقلت عنهم إشارات تفيد مجرد المنع إلا فى القليل النادر، فإننا نجد عبارات قصيرة أومأوا فيها إلى أسباب المنع محكية عنهم فى مصنفات غيرهم من علماء الأمة. وهذا بخلاف الإمام ابن تيمية ومن بعده فلدينا أقوالهم فى منع المجاز منصوص عليها فى مصنفات خاصة بهم (([95].
والعمدة فى منع المجاز فى القرآن الكريم بخاصة يرجع أول ما يرجع إلى داود الظاهرى وابنه محمد وإن عزى هذا القول إلى غيرهما من العلماء (([96].
والمتقدمون من الأصوليين حين ينسبون إلى داود الظاهرى نفى المجاز فى القرآن يذكرون له شبهتين:
إحداهما أن المجاز عند من يقول به لا يدل على معناه إلا بمعونة القرينة، وهذا تطويل بلا فائدة ومع عدم القرينة يكون فيه إلباس.
¥