ملتقي اهل اللغه (صفحة 2934)

ولا مجازًا، وثانيًا لو قدَّرنا أنَّه معرفةٌ في ذهنِ المتكلِّم، فليس بمعرفةٍ عند المخاطبِ؛ والتعريفُ إنما هو للمخاطبِ، لا للمتكلِّم، كما أنك لا تأتي إلى رجلٍ خالي الذهن، وتقول له: اشتريتُ الكتاب، وقرأتُه، إذا كان لا يدري أيُّ كتابٍ هذا الكتاب. ولا ينفعُك أن يكون معروفًا عندكَ إذا كانَ مجهولاً عندَه. ومثل هذا الضميرُ؛ فإنَّك لا تقول لخالي الذهنِ أيضًا: (جاء إليَّ، فأكرمته) إذا كان لا يعرفُ هذا الذي أضمرتَ عنه. وثالثًا يكون ناقض كلامَه السابقَ؛ إذ جعلَ لام (الذئب) للجنس؛ والجنسُ كما ذكرتُ غيرُ العهدِ. ويكون رابعًا غيرَ مزيلٍ للإشكالِ، ولا كاشفٍ عن وجه البلاغةِ؛ إذ لِمَ لمْ يُعرَّف (الغلام) أيضًا، و (القرية) بهذا القصد؟

وإن كان يريدُ بلام (السفينة) الجنسَ، فهو أولاً لم يبيِّن وجه البلاغة فيهِ، ولا علةَ التفرقة بينه وبين (الغلام)، و (القرية)، وسمَّاه بغير اسمِه ثانيًا، ولا يصِحُّ ثالثًا أن يسمَّى تعريفًا للجنس، لأنَّ المعرَّف إنما هو فرْد من أفرادِه.

وزعمَ الدكتور فاضل السامرائيُّ أن سبب تعريف (السفينة) أنَّه جاءت سفينةٌ مارّةٌ، فناداها الخضرُ، وموسى، فعرفوا الخضرَ، فحملوهما بدون أجر [لمسات بيانية في نصوص من التنزيل 41]. أما الغلام فإنهما لقياه في طريقهم، وليس غلامًا محددًا معروفًا. والردُّ على هذا هو ما ذكرنا آنفًا من أن مقتضى التعريفِ أن يَّكون معروفًا للمخاطبِ، لا للمتكلِّم.

وأمَّا بيتا امرئ القيس، فأولهما قولُه:

مِسحٍّ إذا ما السابحات على الونَى ... أثرن الغبارَ بالكَديد المركَّلِ

وهذه هي الرِّواية الحُسنى؛ فقد أراد أن يصِفَ سرعةَ جريِ فرسِهِ، وأنَّه إذا كان بينَ الجِيادِ السابحاتِ، وقد بلغَ منهنَّ الإعياء مبلغَه، وجعلن يُثرن الغبارَ لسرعةِ جريهنَّ، وكرمِهنَّ، وجدتَّ فرسَه ينصبُّ في جريه انصبابًا، ولا يقصِّر عنهنَّ. وكانت (الغبار) بالتعريفِ أحسنَ، وأبلغَ، لأن هذا موضِع تهويلٍ، وتوكيدٍ؛ كأنَّه يريدُ أن يردَّك إلى تذكُّره بحقيقتِه؛ فكأنه يقول: إنهنَّ يُثِرن الغبارَ المعروفَ من غيرِ تجوُّزٍ. وهذا أبلغُ في الدّلالة على سرعة جريِهنَّ، ثم الدلالة على سرعة جريِ فرسِهِ.

وأما الآخَر، فقولُه:

فعنَّ لنا سِربٌ كأنَّ نِعاجَه ... عذارى دوار في ملاءٍ مذيَّلِ

وهذه هي الرِّواية الحُسنَى، وذلك أن الشاعرَ أرادَ أن يصفَ قطيعَ البقرِ الذي صادفه في صيدِه؛ فشبَّهَه بالعذارى إذا لبِسنَ ملاءً؛ وهو ضربٌ من اللِّباس يُلتحَف بهِ، وكان هذا المُلاء مذيَّلاً؛ أي سابغًا، في حالِ طوافهنَّ حولَ (دَوَار)؛ وهو صنم من أصنامهم. وذلك أنَّ البقرَ تكون بيضَ الظُّهور، سود القوائم؛ وكذلك العذارى في الملاءِ المذيَّل، وأنَّ البقرَ يلوذ بعضها ببعضٍ؛ وكذلكَ العذارى حولَ الصنمِ.

وإنما كان التنكير هنا أحسنَ، لأنَّ المَقام ليس مَقام تعظيمٍ أو نحوِه؛ وإنما هو وصفٌ مجرَّد لا مبالغةَ فيه، وليس ذِكرُ (المُلاء) على العذارى بالذي يدعو إلى العجبِ، وليس تعريفُه بالذي يخدُم غرضَ الشّاعر، ومقاصِده في شعرِه. والبلاغة ليست كلُّها في المبالغة، أو التهويلِ؛ وإنما البلاغة أن تضعَ كلَّ شيءٍ موضعَه، وتخاطبَ كلَّ امرئٍ بما يعقلُه.

فيصل المنصور

ـ[أبو الفضل]ــــــــ[27 - 04 - 2009, 03:55 م]ـ

جزاك الله خيرا شيخنا لقد أبدعت وفقك الله لمحابّه ومرضاته

ـ[منذر أبو هواش]ــــــــ[27 - 04 - 2009, 10:35 م]ـ

تعريف السفينة لوجودها المقدر في الكلام المختصر ...

قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)

بين الانطلاق وركب السفينة أحداث وتفاصيل كثيرة تجاوزها القرآن الكريم اختصارا على عادته في اختصار القصص القرآني، وفي الانتقال من مشهد إلى مشهد، وذلك لأن تلك الأحداث والتفاصيل بين المشهدين تعتبر من الإطناب الذي لا داعي له، ويمكن تقديره كما قدره الدكتور فاضل السامرائي الذي قال إن (سفينة) مرت، فناداها الخضرُ، وموسى، فعرفوا الخضرَ، فحملوهما، فركبا في (السفينة) ...

فالسفينة موجودة تقديرا فيما مضى من كلام جرى تجاوزه اختصارا، فكان تعريف السفينة مثل تعريف الرسول في قوله تعالى: "كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً * فعصى فرعون الرسولَ"، ومثل تعريف المصباح والزجاجة في قوله تعالى: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ... " (النور 35).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015