ملتقي اهل اللغه (صفحة 2933)

فـ «أل» إذن لا تفارقُ التعريفَ في أصل وضعها. ولا يصِحُّ تقسيمُها إلى جنسيَّةٍ، وعهديَّةٍ، ثم تقسيمُ الجنسيَّة إلى دالَّة على الحقيقة، ودالَّة على الاستغراقِ، ثم تقسيمُ العهديَّة إلى ذكريَّة، وعلميَّة، وحضوريَّةٍ؛ بل كلُّها للتعريفِ، وحقيقتُها واحدةٌ لا تختلِف؛ وإنما الاختلافُ بينَها في المراجِع التي يرجِع إليها التعريفُ وحسبُ. وهي في هذا تُشبِه الضمير؛ فكما أنَّ رجوعَه قد يكون إلى اسم يتقدَّمه، وقد يكون إلى المفهوم من فعلٍ سابقٍ له، وقد يكون إلى ما لا ذكرَ له في الكلامِ، وهو مع ذلكَ لم يُقسَّم من هذا الوجه، فكذلك المعرَّف بـ «أل».

فأمَّا ما استحَقَّ التعريفَ من الكَلِم، فلا يجوز تنكيرُه بحالٍ ولو مجازًا؛ وإنما تنكِّرُه العربُ باسم الإشارةِ مع التعريفِ بأل؛ فأمَّا التعريفُ بأل، فللتمييز من سائر الأفراد. وأما الإشارة، فلبيانِ أنَّه نكِرةٌ حتى معَ تعريفِه؛ فهو يحتاج إلى تعريفٍ آخَرَ.

وأمَّا ما استحقَّ التنكيرَ ممَّا لا يُراد بهِ فردٌ معيَّنٌ، فلا يُعرَّف إلا لغرضٍ بلاغيٍّ كما سيأتي.

واعلمْ أنه لا يمكن أن يأتيَ التنكيرُ لغرضٍ بلاغيٍّ البتةَ، لأن التنكيرَ هو الأصلُ، وهو الذي اقتضاهُ المعنَى. ومن شرط صحَّة العلَّة أن يتعلَّق الحُكْم بها وجودًا وعدمًا. وهذه لو أبطلنا العلَّة فيها؛ وهي إرادة الغرضِ البلاغيّ، لما زالَ الحُكْم؛ وهو التنكيرُ.

وهذا الذي ذكرتُ من أحكام التعريف بـ «أل» إنما هو نبذة مختصرة مهَّدتُّ بها لما بعدَها. ونأتي الآنَ إلى الآية الكريمةِ؛ فننظر لِمَ عُرِّفت (السفينة) دونَ (الغلام)، و (القرية)؟

ليس في هذه الآية دليلُ حالٍ، ولم يجرِ للسفينة ذِكر؛ فيعودَ التعريف إليها؛ فيبقَى إذن احتمالانِ:

الأول: أن يقال: إنَّ في قوله تعالى قبلُ: ((وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبًا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرَبًا)) [آية 60، 61] ما يُشبِه الذكر للسفينةِ؛ ذلكَ أنَّه ذكرَ أن موسى عليه السلام بلغَ البحرَ. وهذا يجعلُ السامعَ كالمنتظرِ لذكر ما يحملُهم في البحرِ؛ وهو السفينةُ؛ فعلى هذا يكون مرجِعُ «أل» مفهومًا من ذِكْر غيرِهِ؛ فلذلك عرَّفَها. أما الغلام، والقرية، فلم يتقدَّم قبلَهما ما يؤذِن بذكرِهما.

الثاني: ألا يكونَ ثمَّةَ مرجِعٌ لـ «أل»؛ فيكون تعريفُها تعريفًا لفردٍ منها غيرِ معلومٍ لدى السَّامعِ من طريقِ المجازِ (استعارة مكنيَّة)؛ كأنَّه يخبِرُك أنَّ هذا الشيءَ معروفٌ لديك، ويدعوك إلى تذكُّر صفاتِه؛ كأنَّه قالَ: (أرأيت هذا الشيءَ المعروفَ بعظمتِه، وبحملِه الأثقالَ، والبشرَ، فإنَّ الخضِر خرقَه). وذلك كثيرٌ في مقامات التهويل، أو التعظيم. وإنما ذلك ليبيِّن عِظم ما فعلَه من خرقِها في عين موسى عليه السلام. وآية ذلك أنه قال بعدُ: ((لقد جئت شيئًا إمرًا))؛ و (الإمر) أشدُّ من (النُّكر)؛ ولهذا عرَّف (السفينة) ولم يعرِّف (الغلام)؛ إذْ كان خرْق السفينة سببًا لهلاكِ نفوسٍ كثيرةٍ، وقتلُ الغلام إنما هو هلاكُ نفسٍ واحدةٍ. هذا مع كونِ أصحابِ السفينة محسنينَ بحملِهم فيها بغير أجرٍ كما قيلََ، وكونِهم مساكينَ أيضًا كما ذكرَ الله تعالى بعدُ.

وزعمَ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أنَّ لامَ (السفينة) للعهد الذهنيِّ [التحرير والتنوير 6/ 375]، ومثَّل لها بـ «وأخاف أن يَّأكله الذئب»، وذكرَ في هذه الآية الأخيرة آيةِ يوسفَ أنَّها لتعريف الجنسِ [السابق 5/ 231]؛ فإن كان يريدُ بلام (السفينة) العهدَ الذهنيَّ كما قال في موضعها، فإما أن يَّكون قصدُه بالعهدِ الذهنيِّ أن يكونَ بين المتكلِّم والمخاطَب عهدٌ سابِقٌ فيه؛ فيكونُ الشيخُ لم يبيِّن في لامِ السفينة كيفَ هذا العهدُ أوَّلاً، ويكونُ هذا المعنى ثانيًا غيرَ صالحٍ إجراؤُه في الآيتين، ويكون قد ناقضَ كلامَه ثالثًا، لأنَّ لامَ الجنس أو الحقيقة غير لامِ العهدِ. وإن كان قصدُه بالعهد الذهنيِّ أن يكونَ المتكلِّم يريدُ بهِ فردًا مبهمًا من أفراد الحقيقة من حيث عهدُه إيَّاه في ذهنِه، فهذا أوَّلاً معنًى لا يصِحّ، لأنَّه حين إذٍ ليس معرفةً حقيقةً،

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015