ملتقي اهل اللغه (صفحة 2923)

ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[27 - 11 - 2011, 10:05 م]ـ

81 - لمحة في قوله تعالى:

1 - {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم: 51]

2 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21]

3 - {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]

هنا ملاحظتان:

الأولى:

"مصفرا" جاءت،في سياقات مختلفة، وصفا لمتغيرات هي الريح والنبات والزرع، لكنها ظلت ثابتة من حيث تعلقها بفعل الرؤية سواء أكانت الرؤية لمعين أو لغير معين:

فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا [الروم: 51]

فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا [الزمر: 21]

فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا [الحديد: 20]

الثانية:

في آية الحديد تصوير لأطوار النبات المتعاقبة:

يهيج-يرى مصفرا-يكون حطاما

الاصفرار متعلق دائما بالرؤية: "فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا" ومن ثم تنبعث الإشارة الإعجازية في تمييز حال" الاصفرار " في النبات عن الحال السابقة " الهياج" وعن الحال اللاحقة "الحطام"

التمييز الأسلوبي واضح ينشئه "الالتفات " وتحويل وتيرة الحديث من سرد موضوعي نحوخطاب تلفظي يحضر ذات المتلقي، ثم سرعان ما يعود الحديث إلى طريقته الأولى، بحيث تكاد تتخذ جملة "فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا "صورة التعبير المعترض!

هذا التصرف الأسلوبي قد لا يفهم إذا أخذنا بعين الاعتبار مبدأ التوافق بين المعنى والمبنى ... فليس في ظاهر المعنى اختلاف كبير يسوغ اختلاف المبنى ف"الهياج" هو نفسه" الاصفرار" أو قريب منه قال الراغب:

يُقَالُ: هَاجَ الْبَقْلُ، إِذَا اصْفَرَّ وَطَابَ،

وقال ابن عاشور:

وَعَطَفَ "فَتَراهُ مُصْفَرًّا" بِالْفَاءِ لِأَنَّ اصْفِرَارَ النَّبْتِ مُقَارِبٌ لِيُبْسِهِ،

والمرجع الدلالي في هذا كله واحد: النبات في تعاقب أحواله المتدرجة ..

إن في تعليق الاصفرار بالرؤية لدقة مذهلة ... فلو قال "فيكون مصفرا" أو "فيصير مصفرا" لجاء الباطل،ولوقال "فتراه حطاما" لجاء اللغو ... ذلك لأن الألوان لا تنتمي إلى حيز المدركات بل هي في بنية الإدراك نفسه:

فالصفرة ليست عرضا قائما بالنبتة أو صفة حقيقية من صفاتها بل هي من إنشاء العين بمقتضى انعكاس الضوء على شبكية العين فيؤول المخ اللون فيعتبره أحمر أو أصفر بحسب تركيب العين وطول الموجات الضوئية وترددها ... ومن ثم تختلف ألوان الشيء الواحد بحسب بنية العين الباصرة، فما تراه النحلة من ألوان الزهرة يختلف عما تراه العين البشرية منها، ومن الحيوان –الثور مثلا-من يرى الدنيا بلا ألوان مثل ما نرى نحن شريطا تلفزيونيا بالأبيض والأسود!!

فبدون عين لا لون مطلقا ... أعني لا لون موجود أصلا ... فاللون الأصفر موجود مادامت العين تنظر ... فإذا أغمض الناظر عينيه انعدم اللون ذاتيا وموضوعيا معا ... فلا يقال هو موجود ولكن لا عين تراه ... بل إن وجوده هوعين رؤيته فهو من اختراع العين نفسها!!!

إذا تقررت هذه الحقيقة العلمية أدركنا سرا من أسرار التعبير القرآني ... فربط اللون بالعين الباصرة للمخاطب هو شيء أعمق من تفنن في التعبير وأجل من تلوين الخطاب بالتفات بديع ...

ولو تتبعنا مواضع ذكر الألوان في القرآن لوجدنا في الغالب الأعم:

-إما الالتفات وتوجيه الخطاب إلى المتلقي كما في الآيات السابقة ذريعة لذكر الرؤية:"فتراه"

-وإما تسوير العبارات التي تضمنت ذكر الألوان بما يدل على الرؤية:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) -فاطر-

-أو يذكر النظر والناظرفي سياق اللون:

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) - البقرة.

وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) -الاعراف.

وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) - طه.

وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) -الشعراء ...

لكن جاءت ألوان في مواضع من القرآن على غير هذه الوتيرة ... ونحن نرى في جلها تعزيزا للقاعدة التي وصفناها ... وليس تشكيكا فيها:

يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) -الصافات

مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) -الرحمن

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) -آل عمران

فهذه الألوان في العالم الآخر ... وقوانين الإدراك هناك ليست بالتأكيد مثل قوانين الإدراك هنا ...

أما آية يس:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)

فالمراد بالأخضر الارتواء والغضارة في مقابل اليبس والجفاف .. والسياق الحجاجي يرشح ذلك فإخراج النار مما هو رطب لا من غيره أدل على القدرة من إخراجها من هذا اللون لا من ذاك ... والله أعلم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015