ملتقي اهل اللغه (صفحة 2922)

ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[18 - 08 - 2011, 08:53 م]ـ

79 - لمحة في قوله تعالى:

قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ {121} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {122} قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {123} -الأعراف-

شاع في وقتنا تداول مفهوم" نظرية المؤامرة" وأضحى من المعتاد أن تكون الأحداث الكبرى (السياسية والاقتصادية خاصة ..) موضوع ازدواجية في التأويل:

تأويل "عادي" أو ظاهري،وتأويل مستند إلى" نظرية المؤامرة" ..

ولعل أول تعريف لهذا المفهوم هو ما كتبه كارل بوبر- فيلسوف العلم الشهير –بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية: قال:

هي الرأي الذي يفسر الظاهرة الاجتماعية بالكشف عن رجال أو جماعات لهم مصلحة في حدوث تلك الظاهرة فيخططون لحدوثها ويتآمرون على ذلك (وأحيانا تكون تلك المصلحة خفية فيتعين الكشف عنها مسبقا)

يرى بعض المؤرخين أن أول ظهور لهذا المفهوم كان في القرن السابع عشر عند المعارضة البرلمانية للتاج البريطاني .. لكن معظهم يتفقون على أن أول نظرية تآمر حقيقية قد تبلورت في نهاية القرن الثامن عشر في مجال الثورة الفرنسية ..

واضح أننا نتحدث عن الخطاب لا الواقعة:

وإلا فالتآمر قديم في الإنسان لا يخلو منه عصر أو مصر .. وإنما البحث هنا عن بداية تشكل الخطاب التآمري وتشغيل مفهوم المؤامرة عنصرا استراتيجيا للتحليل والتأويل ... تلك البداية التي يعزونها إما إلى الثورة الانجليزية أو إلى الثورة الفرنسية ...

هذا مبلغهم من العلم ..

أما التحقيق فإن هذه النظرية موغلة في التاريخ .. اصطنعها فرعون مصر قبل الثورتين بمراحل .. وقد نقلها البيان المعجز بدقة حتى أن خطاب الفرعون لا يعد نموذجا من الخطاب التآمري فحسب،بل نموذجا له:

1 - الخطاب الفرعوني" تأويل" (تفسير خطاب بخطاب):

والتأويل يقتضي انتقالا من الظاهر إلى الباطن، ومن المعلن إلى المضمر .. ومن ثم يقرأ الفرعون "المناظرة العلمية" ظاهرا على أنها "مؤامرة سياسية" باطنا ..

2 - الخطاب الفرعوني "حيدة وتمويه" (ستر خطاب بخطاب):

يحاول الفرعون تحويل الأنظار عن الانتصار الحاسم لموسى عليه السلام فيؤسس خطابا للتمويه مقصده أن يتصدر وعي الناس لينزوي الخطاب الآخر إلى الهامش ... فالخطر المحدق بالفرد أولى بالاهتمام من انتصار فريق على فريق ..

ويبدو أن الفرعون يتقن مثل هذا الخطاب فقد اصطنعه مع موسى عليه السلام مرة أخرى:

قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى {49} قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى {50} قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى {51} قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى {52}

فالحديث عن القرون الأولى تمويه وفرار فقط .. وقد فطن موسى عليه السلام لمكر فرعون فسد عليه باب فتح المواضيع الجانبية،لتعويم الموضوع الأصلي، فأرجعه إلى موضوع الربوبية "لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى"

3 - الخطاب الفرعوني ذهاني/رهابي ..

يتجاوز الفرعون حدود ما يسمح به المنطق العادي .. فاقتراح المواجهة العلمية جاءت من قبل الملأ من قومه وهم الحاشية والبطانة .. وجمع السحرة من متفرق الأقاليم كان بأمر من الفرعون:

قالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {109} يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ {110} قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ {111} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ {112}

فكيف تم الاتفاق على المؤامرة ومتى حصل ذلك؟ أفيكون الفرعون متآمرا على نفسه إذ هو صاحب الفكرة ومنفذها!!!

4 - الخطاب الفرعوني" تآمري"

وهذا واضح .. ويمكن أن نرصد بيسر في خطاب الفرعون كل العناصر التي حددها كارل بوبر ..

ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[07 - 09 - 2011, 05:28 م]ـ

80 - لمحة في قوله تعالى:

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ..... 16 - الكهف.

المخاطبة ليست لتلوين الأسلوب أو للتفنن في سوق الحديث (راجع اللمحة الثالثة من هذه السلسلة) .. بل لتوجيه المعنى وحمايته من التكذيب أو الارتياب .. ويتضح ذلك بمقارنة التعبير الموحى بالتعبير المصطنع:

1 - وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ

2 - [كانت] الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ..

المعنى ليس واحدا وإن بدا كذلكَ!!

فالتعبير الثاني يخبر عن "واقعة فلكية" .. أما العبارة القرآنية فتخبر عن "واقعة نفسية"وشتان بين الأمرين…

لاحظ أن العبارة المصطنعة قابلة للتكذيب (أو للارتياب في أحسن الفروض) فقد يقول عالم الفلك أن إسناد الطلوع والازورار والغروب للشمس ليس صحيحا (إلا مع الهروب إلى التأويل) .. يتسامح فيه في الخطاب العامي ولكن لا يليق أن يكون في كتاب تدعون أنه لا يأتيه الباطل من أي جهة ..

لذا نقلت الآية المعنى من الظاهرة الطبيعية إلى الظاهرة النفسية فجعلت حركة الشمس متعلقة بالرؤية لا بنفس الأمر: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت…

ورؤية الشمس طالعة غاربة حق لا ريب فيه…

وهكذا فتحويل الخطاب وتوجيهه إلى المتلقي ليس تفننا في الأسلوب بل احتراسا بديعا وصيانة للقرآن من المطاعن ..

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015