ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[03 - 08 - 2011, 03:07 م]ـ
3 -
وَالْعَصْرِ {1} ...
نريد أن نجلي بعض المعاني البلاغية للقسم ... واخترنا-احترازا من الانسياق وراء التعميمات النظرية- أن يكون المنطلق هذا السؤال الذي قد يبدو مستغربا:
لم لا يكون القسم في السورة بالمصدر!!
لا أحد –حسب علمي-خطر بباله هذا الاحتمال، إلا ما كان من السيدة بنت الشاطيء التي أشارت إلى هذا المعنى لكنها لم تذهب إلى حد أن يكون "العصر" مصدرا،وإنما اكتفت باعتبار المعنى المصدري ملحوظا في الاسم ومتضمنا فيه على جهة الإيحاء –بل على جهة الأصالة-إذ زعمت أن:
"المعنى الأصلي للعصر لغة: الضغط لاستخلاص العصارة. استعملته العربية حسياً في عصر العنب ونحوه لاعتصار خلاصته. ومنه المعصرة آلة العصر، والمعصرة مكانه. والعواصر ثلاثة أحجار كانوا يعصرون بها (.....)
ومن هذه الدلالة اللغوية الأصلية على الضغط والإعتصار، سمي الدهر عصراً، بملحظ من استخلاصه عصارة الإنسان بالضغط والتجربة والمعاناة".
من الصعب أن نقر الأستاذة على هذا التحليل الدلالي التاريخي لكلمة "عصر "، فليس لها دليل على هذه الأصالة المفترضة،والأمر لا يعدو أن يكون اشتراكا لفظيا مبنيا على استقلالية الوضع .. ثم إن الاقرب إلى الصواب أن تكون الألفاظ الدالة على الطبيعة-بالمعنى الانتربولوجي-أسبق في الوجود من الألفاظ الدالة على الثقافة-بالمعنى الانتربولوجي- أعني أنه لا يتصور أن يكون العصر-الزمن، أو جزء من الزمن-غفلا من الاسم مع تحرك الإنسان فيه وحاجته الوجودية إلى تنظيم حياته وفق إحداثياته .. ومع ذلك يؤثر العربي أن يمنح أولا اسم العصر لفعل وقتي غير أساسي في الوجود-استخلاص العصارة- ثم يلحظ المعنى الفلسفي من خلال الفعل المادي فيسمي الزمان به، ثانيا،!!!
وبصرف النظر عن ثبوت هذه الاصالة أو عدمها فإن إشارة الاستاذة إلى المعنى المصدري كانت مترتبة عن إسناد وظيفة بيانية- جمالية- للقسم يقتضيها قانون الاتساق والتشاكل ... وقبل تفصيل هذا المعنى نحب أن نتفحص الوجهين الدلاليين للقسم:
-للقسم وجه حجاجي،وهو بلا ريب الغرض المتأصل فيه، فالسليقة ترشح أن يكون القسم وسيلة للإقناع (ومازالت المحاكمات قديما وحديثا تعتبر اليمين دليلا بل قسيما للبينة ..) ومن هنا اقتضاء المقسم به أن يكون مستعظما عند المتكلم ليكسب قوله القوة الحجاجية المطلوبة ..
-للقسم وجه بياني تكون الغاية منه الإمتاع لا الإقناع،فلا يكون "التعظيم" هو الحامل على اختيار القسم وإنما "التناسب" بين عناصر الخطاب القسمي .. وترى الأستاذة أن جل المفسرين انساقوا وراء استكناه واستقراء معاني التعظيم وأهملوا في المقابل الكشف عن اسرار التلاؤم بين القسم وموضوعه ...
للحديث بقية إن شاء الله.
ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[10 - 08 - 2011, 05:49 م]ـ
4 -
والعصر .....
العلاقة بين المقسم به (العصر، بالمعنى المصدري) والمقسم عليه (خسران الإنسان) مبنية على التشاكل ... وفي وسعنا أن نخصص هذه المشاكلة في معنى "المماثلة" أوفي معنى"التمثيل" ... فعلى التخصيص الأول يكون في القسم "وجه من البديع"، وعلى الثاني يكون فيه "وجه من البيان":
فأما المماثلة فإنها ل"تحسين" المعنى، على اعتبار استئناس الذهن بالتناسب .. فالأمر شبيه بالجناس حيث يتحرى فيه التشاكلات الصوتية بغية إمتاع السمع .... وهنا التشاكل معنوى لا حسي، والمتعة ذهنية لا سمعية ..
وأما التمثيل،فلأن القصد البلاغي فيه هو تقرير المعنى وترسيخه في النفسن على أسلوب تقديم المعنوي في لباس من الحسي وتشبيه الأول بالثاني .. فتتحقق المشاكلة بين الطرفين لكن لغرض الإفهام والبيان نلا لغرض التزيين والإمتاع ... وهذا تقرير للتمثيل البياني:
-العصر يفترض -في مقوماته الدلالية العامة- أمرين:
فعلا حسيا هو ممارسة الضغط على شيء صلب فيكون القصد إلى استخراج السائل الكامن فيه ..
فعلا معنويا أو حكميا يتعلق بالتقويم أو التقدير. فالعصارة "أشرف" وما عداها "أخس" .. فيكون العصر آلية للتمييز تفضي إلى تقسيم الواحد إلى اثنين:
ما هو جوهري في الشيء فيجب الاحتفاظ به والاحتفاء به، وما هو من الشوائب فيجب طرحه ونبذه ..
هذه المعاني في المقسم به لها نظيرات في المقسم عليه:
فلك أن تتمثل الإنسانية في شكل الشيء الذي سيعصر، وتتمثل ابتلاء الإنسانية وفتنتها من خلال إيقاعها تحت التكليف في شكل ضغط عليها ... -نلحظ اتفاق" العصر"و"الفتنة" في الأمرين السابق ذكرهما فالفتنة تفترض أيضا فعلا شديدا هو العرض على النار وفعلا نهائيا هو التمييز بين المعدن النفيس والشائب الخسيس فيحفظ الأول ويطرح الثاني-
ولك أن تتمثل أخيرا الإنسانية في حصيلة الفتنة والاختبار:
فقد استخلص منها أشرف ما فيها وهم: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر ..
وبقي من الإنسانية حثالتها وهي جديرة بالطرح في جهنم كما تطرح الشوائب والقشور في موقد النار!!
فقد ثبت، إذن، التمثيل البياني بين طرفي القسم ... فهل يجوز لنا،تبعا لذلك، أن نصحح القسم بالمصدر؟؟
هذا مستبعد في نظرنا -رغم المسوغ البياني الذي شرحناه- وسبب الاستبعاد ننيطه بالخصائص الأسلوبية العامة للقرآن أو ما يسميه المفسرون "عادة القرآن" ... فليس من عادة القرآن القسم بالمصادر وإنما يطرد فيه القسم بالذوات .. سواء أكانت هذه الذوات من عالم الشهادة أم من عالم الغيب .. وسواء أكانت دلالاتها قطعية أم احتمالية ...
ثم من عادة القرآن القسم بالزمن وأجزائه من الليل والنهار والفجر والضحى .. فيكون القسم بالعصر متسقا مع هذه المعاني .. فلا جرم أن يكون العصر مرادا به الذات لا المصدر.
¥