أنهم لما أجابوه أراد أن يحقق عليهم الأمر حتى لا يكون لهم سبيل إلى الجحود، فخرج عن ذلك إلى إبطال ما قالوه من عبادة آلهتهم وأنحى عليها من البرهان جرازا مقضبا، ومن الإفحام كلاما منظما مهذبا، فصدره بالاستفهام تأدبا منه وملاطفة لهم، ولم يأت بحجته على جهة القطع منه بها، كمن ينكر الحدوث فى العالم فتقول له: هل يجوز عليه التغير؟ ولم يقل من أول وهلة: إن قولكم هذا باطل لا حقيقة له.
ثم أورد فى إبطال إلهيتها أدلة ثلاثة:
أولها- أنها لا تسمع دعاء، ولا تدرك نداء؛ لكونها جمادا حجارة صلدة لا حياة لها ولا حراك بها. ومن هذه حاله فكيف يكون أهلا للعبادة.
وثانيها- قوله: أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ؛ لأن من كان فيه نفع فهو حقيق بما يفعل فى حقه من رفع المنزلة وعلوالدرجة.
وثالثها- قوله: أَوْ يَضُرُّونَ (73)؛ لأن كل من قدر على النفع فهو قادر على الضرر وعكسه أيضا؛ لأن حق من كان قادرا على شيء أن يكون قادرا على ضده؛ لأن القدرة صالحة للأمرين الضدين جميعا والمختلفين، فهذه إلزامات ثلاثة لا محيص لهم عنها، فإذا كان حالها هذه الحال من عدم السمع، واستحالة النفع والضر منها. فلا يليق بحالها العبادة التى هى نهاية الخضوع والذلة للمعبود، مع عدم الأهلية والاستحقاق، هذا محال فى العقول بلا مرية.
ثم أجابوه بالإقرار بما ألزمهم من عدم ذلك منها، فزاد إقرارهم الإلزام تأكيدا وإفحاما فقالوا: الأمر فيها كما قلته لكنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فنادوا على أنفسهم بالجهالة، وأقروا بركوب الضلالة، وأنهم ما فعلوا ذلك عن نظر وتفكر وتدبر، فوصفوا نفوسهم بالقصور عن مراتب النظار، وانخرطوا فى سلك أهل الغباوة والأغمار، وزعموا أنه لا عمدة لهم فى ذلك إلا وجدان الآباء، واقتفاء آثار الأسلاف والرؤساء.
التخلص الثالث
أنه لما تحقق تعويلهم على التقليد خرج إلى إبطال أمره وتزييفه بقوله: "قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) [الشعراء: 75 - 76] فأورد الرد عليهم بالاستفهام على جهة الإنكار متعجبا من حالهم حيث جعلوا ما لا يكون حجة وبرهانا وليس حجة، بل هو شبهة منكرة، وأخرجه عن أن يكون حجة، كأنه قال: أفلا ترون ما جعلتموه مستندا لعبادتكم أنتم ومن سلف من آبائكم القدماء، هل مثله يعبد مع كونه لا يسمع ولا ينفع ولا يضر ولا يملك شيئا. وفيه تعريض بحالهم وتجهيل لهم وأن من هذه حاله من عبادة حجر لا يضر ولا ينفع فلا عقل له، ولا يكون معدودا من العقلاء.
التخلص الرابع
هو أنه لما ذكر أنهم لا يستحقون العبادة خرج إلى ذكر عداوته لمن هذه حاله، فلهذا قال عقيب ذلك: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ- كأنه صور المسألة فى نفسه على معنى "إنى فكرت فى أمرى ونظرت فى حالى فرأيت أن عبادتى لها عبادة للشيطان العدو فاجتنبتها". وإنما قال: «فإنهم عدوّ لى» بالإضافة إلى نفسه ولم يقل: فإنهم عدو لهم؛ ليريهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه؛ ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول لقوله، وأبعث إلى الاستماع لخطابه، ولو قال: فإنهم عدو لكم- لم يفد هذه الفائدة.
وكان القياس فى الخطاب بالضمير أن يقول: فإنها عدو لى، أو فإنهن؛ لأنه راجع إلى الأصنام، والضمير فيمن لا يعلم أن يكون على هذه الصورة، ولكنه أورده على ضمير العقلاء لأمرين:
أما أولا فلأنهم لما زعموا أنها تستحق العبادة، وأنها يوجد من جهتها النفع ودفع الضر صارت لذلك بمنزلة العقلاء.
وأما ثانيا فلأنهم لما كانوا فى الإنكار على سواء وجه الخطاب إليهم على جهة تغليب حالهم على حالها.
التخلص الخامس
هو أنه لما ذكر أنها غير مستحقة للعبادة وذكر العداوة لها خرج إلى ذكر الله تعالى، فأجرى عليه تلك الصفات اللائقة بذاته من إعظام حاله، وإظهار جلاله، وتفخيم شأنه، وتعديد نعمه من لدن إنشائه، وإبداع ذاته إلى حين مرضه، ودنو وفاته، مع ما يرجى فى الآخرة من عفوه ورحمته؛ ليعلم أن كل من هذه حاله فهو حقيق بالعبادة واجب على الخلق الخضوع له، والاستكانة لعظمته. وفيه تعريض بحال ما يعبد من دونه فى الاتصاف بنقائض هذه الصفات كما ترى.
التخلص السادس
¥