هو أنه لما فرغ مما ذكرناه خرج إلى ما يكون ملائما له ومناسبا فدعا إلى الله تعالى بدعوات أهل الإخلاص، وابتهل إليه ابتهال أهل الأمانة؛ لأن الطالب من مولاه إذا قدّم قبل سؤاله والتضرع إليه ذكره بالصفات الحسنى والاعتراف بنعمه كان ذلك أسرع للإجابة، وأنجح للمطلوب. ولهذا فإن كل من أراد حاجة إلى الله تعالى فإنه يستحب له تقديم الثناء على الله بما هو أهله، وذكر صفاته وحمده وشكره. ثم يسأل حاجته بعد ذلك- فإن ذلك يكون أقرب للإجابة وأسنى لإنجاح الرغبة وإنجازها كما ورد ذلك فى الآداب الشرعية.
التخلص السابع
هو أنه لما فرغ مما يخصه من الدعاء لنفسه ولأبيه بالدعوات الصالحة خرج عنه إلى ذكر البعث يوم القيامة ومجازاة الله من آمن به واتقاه وأخلص له العبادة بالجنة وأن كل من عصاه وعبد غيره فإنه مجازيه بالنار، فجمع فى ذلك بين الترغيب فى الطاعة والترهيب من المعصية، وضمّ إليه ذكر الجنة وإزلافها لأهلها من أهل التقوى وذكر النار وتبريزها لأهلها من أهل الغواية كعادته تعالى فى كتابه الكريم، إذا ذكر وعدا أتبعه بالوعيد وعكسه أيضا؛ ليكون حاصلا على الكمال ومراعاة المطابقة فى كل الأحوال.
التخلص الثامن
هو أنه لما فرغ مما ذكره عاد إلى سؤال المشركين ثانيا عند معاينة الأهوال فى يوم الجزاء بقوله: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
[الشعراء:92 - 93] وإنما أورده على جهة التوبيخ والاستهزاء وأنهم لا ينصرونكم فى دفع السوء عنكم، ولا ينتصرون فى دفع ما يخصهم أنفسهم بحال. ثم وصف حالهم فى النار بقوله: «فكبكبوا» أى الآلهة والغاوون، والكبكبة تكرير الكب؛ لأنه إذا ألقي فى النار فإنه يكب فيها مرة بعد مرة حتى يستقر فى قعرها، فجعل تكرير اللفظ دلالة على تكرير المعنى على جهة المطابقة، اللهم أجرنا من عذابك برحمتك الواسعة.
التخلص التاسع
هو أنه لما فرغ من ذلك خرج إلى حكاية ما يقول أهل النار فى النار من الخصومة الناشئة بينهم، وإظهار الحسرة والندامة المفرطة على ما كان منهم من عبادة غير الله ومساواته بمن لا يساويه، وانقطاع ما فى أيديهم من شفاعة شافع أو صداقة صديق كما يكون للمؤمنين فإن شفعاءهم الملائكة والأنبياء وأصدقاءهم هم أهل الإيمان والتقوى، فأما الكفار فلا شيء لهم من ذلك. فعند هذا تعظم الحسرات وتنقطع الأفئدة حسرة وإياسا عن النفع والخلاص عما هم فيه.
التخلص العاشر
هو أنه لما فرغ من ذلك خرج إلى ذكر تمنيهم الرجعة إلى الدنيا بقوله: «فلو أنّ لنا كرّة»، فننزع عما كنا عليه من عبادة غير الله وسلوك طريق التقوى، والكون من جملة المؤمنين فى ذلك. و «لو» ههنا بمعنى ليت فلا تفتقر إلى جواب مقدر وجوابها فتكون، أو تكون باقية على بابها وجوابها يحذف كثيرا وتقديره "فلو رجعنا لفعلنا كيت وكيت من الأفعال الصالحة".
فانظر إلى هذه الآية الشريفة كيف اشتملت على هذه التخلصات اللطيفة مع ما حازته من العجائب الحسان والأسرار ذوات الأفنان، والعجب من الغانمى حيث أنكر التخلص أن يكون واقعا فى كتاب الله تعالى، وما ذاك إلا من أجل اشتغاله بفن الشعر والكتابة عن الاطلاع إلى أسرار كتاب الله تعالى، وهو أظهر من أن يحتاج إلى طلب وعناية
خاصة فى سورة الأعراف وسورة يوسف؛ فإنه سلك فيهما فنونا كثيرة، وتخلص إلى أودية مختلفة. والقرآن كله مملوء منه؛ لأنه لا يزال تكرير الكلام من وعد إلى وعيد، ومن ذكر قصص إلى ذكر أمثال، ومن ذكر أمر إلى نواه، ومن ترغيب إلى ترهيب، إلى غير ذلك فكيف يمكن إنكار ما هذا حاله وهو أوسع ما يكون فى التنزيل.