ملتقي اهل اللغه (صفحة 2593)

نظرة على البنيوية

ـ[د. طارق البكري]ــــــــ[05 - 02 - 2011, 10:56 م]ـ

دراسة اللغة شغلت المفكرين والباحثين منذ القدم، كما نالت دراسة الأدب الذي اتخذ من اللغة صورةً له حظاً أوفر من العناية والاهتمام؛ ذلك أنّها لغةٌ ترتبط وحدتها بعلائق متعددة ومتشعبة، وتتأثر بمؤثرات داخلية من نفس الأديب وأخرى خارجية. ولما كان الدارسون للأدب ينطلقون من تصوراتٍ مختلفة ويحملون أيديولوجيات متعددة؛ فقد تعددت المناهج التي تدرس الأدب. ومن بين هذه المناهج (المنهج البنيوي) الذي نشأ في الغرب أساساً، وأرسى (فرديناند دي سوسير) دعائمه كمنهج يدرس اللغة، ثم استفاد منه النقّاد واستثمروا مبادئه في دراسة الأدب.

ولفظة (بُنْيَويَّة) من حيث اللغة اشتقت من كلمة (بُنية). ويرى البنيويون أنّ كلَّ ظاهرة - إنسانية كانت أم أدبية - تشكل بُنية. ولدراسة هذه البنية تجب تحليلها (أو تفكيكها) إلى عناصرها المؤلفة منها، دون النظر إلى أية عوامل خارجية عنها. واختلف النقادُ في شرح مفهومِ (البنيويةِ)، وأوردوا لها تعريفاتٍ مختلفةً، لكنها على العموم وفي معناها الشامل: "طريقةُ بحثٍ في الواقعِ، ليس في الأشياءِ الفرديةِ بل في العلاقاتِ بينَها".

ومن أبرز ما قرره دي سوسير مبدأ (اعتباطية الرمز اللغوي)، وهو ما يعني أنّ أشكال التواصل الإنساني ما هي إلا أنظمة تتكوَّن من مجموعة من "العلاقات التعسفية"، أي: "العلاقات التي لا ترتبط ارتباطاً طبيعياً أو منطقياً أو وظيفياً بمدلولات العالم الطبيعي"، وأنّ "كل نظام لغوي يعتمد على مبدأ لا معقول من اعتباطية الرمز وتعسفه"، أي تماماً كما يعتبط العقل الجمعي عند (دوركايم) ويتعسف، فيفرض على الناس ما هو خارج عن ذواتهم، ومن هنا انبعثت فكرة (السيمولوجيا) أي علم الدلالة، أو العلامة والإيحاء، وتطورت فيما بعد.

ورواد النقد البنيوي آمنوا بأهميّة تحليل العلاقة بين "لغة" الأثر و"الأثر" نفسه، قصد الكشف عن معانيه الخفية، والتخلي عن الفهم الجمالي المباشر الذي يمارسه السواد الأعظم من النقاد التقليديين, فالأثر الأدبي كما يرى رائد من روادهم (رولان بارت) يتضمن دلالات ورموزاً متعددة يجب التركيز عليها وإبرازها لنعمق فهمنا للأثر. وعلى ذلك فإنّ تحليل النص "بنيوياً" يكون بارتياد عالم "الأثر" للنص، على ضوء طبيعة لغته الرمزية، والتخلي عن واقعه وعناصر خيالاته. وتعني البنيوية عند جورج لوكاش: "استخدام اللغة بطريقة جديدة بحيث يثير لدينا وعياً باللغة من حيث هي لغة، ومن خلال هذا الوعي يتجدد الوعي بدلالات اللغة، هذا الوعي الذي تطمسه العادة والرتابة". وهذا ما ذهب إليه جان بياجيه وغيره .. كما ذهب ليفي شتراوس إلى أنّ البنيوية يمكن تطبيقُها في أي نوعٍ من الدراسات. وهو يحددُ البنيةَ بأنها "نسقٌ يتألفُ من عناصرَ يكونُ من شأنِ أيِّ تحولٍ يعرضُ للواحدِ منها أن يُحدثَ تحولاً في باقي العناصرِ الأخرى".

وفي أدبِنا العربيّ الحديث نجدُ عدداً من النقاد الذين اهتموا بالبنيوية في دراساتِهم وطبقوا مبادئِها وأسسها على النصوص التي درسوها، ومنها ما كتبه موريس أبو ناصر في كتابهِ (الألسنية والنقد الأدبي في النظرية الممارسة)، وخالدة سعيد في كتابها (حركية الإبداع)، وكمال أبو ديب في كتابه (جدلية الخفاء والتجلي)، وعبدالله الغذامي في كتابه (الخطيئة والتفكير من البنيوية إلى التشريحية)، الذي طبق فيه فَهمه للبنيويةِ على شعر حمزة شحاتة ..

وكان النقاد العرب ـ شأن نظرائهم البنيويين الغربيين ـ يعدّون النصّ بنيةً مغلقةً على ذاتِها ولا يسمحون بتغيرٍ يقع خارج علاقاتهِ ونظامه الداخلي. فهذا عبدالسلام المسدي يُعرِّف المنهج البنيوي بأنه: "يعتزم الولوج إلى بنية النص الدلالية من خلال بنيته التركيبية". فيما رأت نبيلة إبراهيم أنّ المنهج البنيوي يعتمد في دراسة الأدب على النظر في العمل الأدبي في حد ذاته بوصفه بناءً متكاملاً بعيداً عن أيَّة عوامل أخرى، أيْ إنَّ أصحاب هذا المنهج يعكفون من خلال اللغة على استخلاص الوحدات الوظيفية الأساسية التي تحرك العمل الأدبي. أمّا فائق مصطفى وعبدالرضا علي فقد رأيا أنّ المنهج البنيوي منهج فكري يقوم على البحثِ عن العلاقات التي تعطي العناصر المتحدة قيمة، ووصفها في مجموع منتظم مما يجعل من الممكن إدراك هذه المجموعات في

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015