وكثيرا ما ينجم عن خطأ حذف لإجراءات الأسلوبية ألا يستطيع قارئ اليوم استجلاء البروز الأسلوبي للنصوص القديمة وبوسعه حينئذ أن يعتمد على الانصباب ليكتشف هذا البروز بتحليل اتجاه الإجراءات الأسلوبية الأخرى، وتوقع أن تكون الإجراءات المندثرة مساوقة للتيار نفسه مما يساعده في نهاية الأمر على اكتشافها وتحديدها وجبر حذفها. فالانصباب في الواقع هو العامل الأسلوبي الذي يضمن استمرار نظام التشفير في النص، ولو كانت هناك أجيال من القراء لم تعد تتبين اتجاه بعض الإجراءات الأسلوبية لأنها فقدت قدرتها على التضاد في النظام اللغوي الجديد، كأن تكون المصطلحات الجديدة أو المستعارة قد فقدت جدتها وطرافتها وصارت من اللغة الأدبية المشتركة فمن الممكن أن تظل بعض هذه العناصر محتفظة بفاعليتها كمثير أسلوبي للتعبير يمس مجموعة الإجراءات التي وضعها المؤلف، ويصبح الانصباب هو وسيلتنا للتعرف على بقيتها.
الخاتمة:
يتوارد إلي ذهني في نهاية هذه الدراسة الموجزة مجموعة ضخمة من التداعيات كنتيجة حتمية لما يورثه البحث في جانب من جوانب الأسلوبية وخصوصاً عند علم من أعلامها الكبار (ريفاتير)، ويتضح من الصفحات السابقة جملة كبيرة من القضايا التي تناولها ريفاتير بإسهاب ولم نورد إلا قليلا من تحديداته الأسلوبية البالغة الأهمية والتأثير على المدارس الأسلوبية قديما وحاضراً.
ومن هذه التداعيات؛ تصور عن مدى تحقق هذه الأفكار والقدرة على ترجمتها إلى الواقع النقدي المشرقي بالتحديد، وقلب المفاهيم الرائجة بإحداث ما يشبه الثورة أو الهزة، فضلاً عن تقارب المفاهيم التي أرساها ريفاتير مع المفاهيم البلاغية القديمة التي نشأت مع الجرجاني وغيره، وقدمت أفكارا لم نستفد منها حتى تاريخنا المعاصر بالشكل النقدي المطلوب، فجاء من الغرب من يوقظ فينا هذا المارد النقدي ويلفتنا بشدة إلى تراثنا الذي قد يحتاج إلى رؤية جديدة تختلف تماما عن الرؤية القديمة باعتبار أن النصوص تتحكم بها السيرورة التاريخية. وقد تبينا في هذا البحث المدى الخطير الذي وصل إليه ريفاتير مما جعله أهلاً ليتبوأ مكانة مرموقة في الدراسات الأسلوبية، وقد لا نتصفح كتاباً في بابه، ولا أقول نتفحصه، حتى نعثر على شخصية ريفاتير منتشرة في جوانبه، توافقا أو اعتراضا. ولعلنا لا نبعد كثيرا عن تقرير أن دراسات ريفاتير لم تتناول بالشكل المعمق الذي تستحقه، وربما يدعونا هذا البحث إلى إجراءات مماثلة لا تستنكف عن تعميق دراسة كل جانب من آرائه - التي لم نتناولها كلها بالطبع واكتفينا بأبرزها- وسبر قيعانها وتتبع الإشارات النقدية التي أرسى قواعدها فنالت استحسان الكثيرين ونقدهم في جانب آخر، وإن كنا لم نتناول النقد الذي وجه لأفكاره وآرائه لأن مكانها ليس هذا البحث المختصر.
ولا أدعي أنني بهذا البحث قد أوفيت كل الجوانب الكبرى التي أثارها ريفاتير - ولا حتى معظمها ربما - ولكنني حاولت تتبع بعض ما قيل عن هذا الباحث الأسلوبي الكبير، ورصد بعض الإشارات الهامة التي قالها بكثير من الاهتمام والترصد، نظرا لما تصبه من رؤى نقدية تختلف كثيرا عن الرؤى والأفكار السائدة والرائجة التي هي تحتاج - بالتأكيد- إلى مراجعة وإعادة تقويم، بالنظر إلى ما استجد من رؤى تقدمية ذات تطلعات منسلة من الأثواب التقيليدية الموروثة، التي تحد تالياً من قدرة الناقد وكذلك من قدرة المؤلف على حد سواء.
وأعتقد أن البحث الأسلوبي الحديث لو قدر له أن يستمر، وينهض، لوجد له قبولا واسعا بين صفوف الدارسين، ليس في المراحل الجامعية العليا فحسب، بل في المراحل الجامعية الأولى وربما المدرسية، ولتبدلت نظرتنا إلى النصوص التي نتلقاها ولأوجدنا أجيالا نقدية قادرة على استجلاب الكثير من الخير، ونزع البرقع الذي يكلل خفايا تراثنا العريق الممتد بدلا من العيش في رؤى نقدية مكرورة لا تحمل روح العصر ولا التفاتاته حتى.
ولا يعوزنا إلا النظر إلى كبار النقاد العرب القدماء - من أمثال الجرجاني - الذين بإمكاننا أن نعتبرهم مجددين في عصرهم وفي العصور التالية، فقد كان لهم الجرأة الأدبية على قول كلمة التغيير وتبديل المفاهيم التي كانت بمثابة (كليشيهات) رائجة، ولم يتوان الجرجاني نفسه عن تفسير بعض آيات القرآن الكريم بأسلوب مختلف عن الأساليب التقليدية مطمئنا إلى سداد رأيه في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة…
وأخيرا، هل بإمكاننا القول إن الدراسات الأسلوبية قد نالت حقها من البحث والتمحيص؟
الواقع بلا شك يبشر بكثير من الخير ويجعلنا نطمئن إلى ما نحن قادمون عليه، والدراسات الأسلوبية باتت سمة العصر، وباتت الكتب التي تتناول هذا الموضوع متوافرة رغم قلتها والحاجة إلى أضعاف منها، وتبسيطها لتصل إلى ذهن القارئ المتوسط الذي تحدث عنه ريفاتير، لا القارئ الخبير فقط.
وبعد، ماذا نتوقع للأسلوبية؟
لا شك أن الغد يخفي الكثير، والوعي الأسلوبي لا بد وأن يتحقق في ضوء الأسلوب الحديث بالنقد والتحليل، وقد ظهر الكثير من الدلائل والمبشرات، ولعل أقلها إقبال الدارسين على هذا النمط الذي بات سمة المثقفين في هذا العصر.
مصادر البحث الأولية:
1 - ابن منظور: لسان العرب.
2 - بيير جيريو: الأسلوبية، ترجمة منذر عياش.
3 - عبد السلام المسدي: الأسلوب والأسلوبية.
4 - شكري عياد: مبادئ علم الأسلوب العربي.
5 - شكري عياد: اتجاهات البحث لأسلوبي.
6 - صلاح فضل: علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته.
7 - محمود عياد: الأسلوبية الحديثة: محاولة تعريف.
8 - منذر عياش: مقالات في الأسلوبية.
9 - موسى ربابعة: الأسلوبية مفاهيمها وتجلياتها.
</ رضي الله عنه></I>