وفي "الغرائب" للكرماني: في الآية الأُولى التقدير: "مثل الذين كفروا معَك يا محمَّد كمثَلِ النَّاعق مع الغنم"، فحذف من كلِّ طرَفٍ ما يدلُّ عليه الطرفُ الآخر، وله في القرآن نظائر، وهو أبلغ ما يكون من الكلام؛ انتهى.
ب - "البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها" للأستاذ عبد الرحمن الميدانِي:
المثال الأول:
قول الله - عزَّ وجلَّ - في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول): ? قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ? [آل عمران: 13].
نُلاحظ في هذه الآية حَذْفًا مِنَ الأَوَائل؛ لدلالة ما في الأواخر، وحذْفًا من الأواخِرِ؛ لِدلالَةِ مَا فِي الأوائل، وهذا من بدائع القرآن، وإيجازِه الرائع.
إنَّ إبراز المَحاذيف يتطلَّب منا أن نقول: ? قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ ? مُؤْمِنَةٌ ? تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ? فئةٌ ? أُخْرَى كَافِرَةٌ ? تُقَاتِلُ فِي سبيل الطَّاغوت ? يَرَوْنَهُمْ ... ? إلى آخره.
فتحقَّقَ "الاحتباكُ" بدلالة ما في الأوائل على المَحذوف من الأواخر، ودلالة ما في الأواخر على المحذوف من الأوائل.
المثال الثانِي:
قول الله - عزَّ وجلَّ - في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول): ? وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ? [التوبة: 102].
قالوا: أيْ: خَلَطُوا عَمَلاً صَالحًا بِسَيِّئ، وعملاً آخَرَ سيّئًا بصالح.
• وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا ?؛ أيْ: جَمَعُوا جمعًا مختلطًا أَعَمْالاً مختلفة ? عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ?، والمعنى: أنَّهم يعملون عملاً صالحًا، ويعملون بعده عملاً سيِّئًا، وهكذا دواليك، فهذا المعنى التتابُعي الذي يَجمع في صحائفهم خليطًا غير متجانس لا يؤدِّيه تقدير: خلطوا عملاً صالحًا بسيِّئ، وعملاً آخر سيِّئًا بصالح.
المثال الثالث:
قول الله - عزَّ وجلَّ - في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) حكايةً لَما خاطب به موسى - عليه السَّلام - عند تكليمه: ? وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ? [النمل: 12]؛ التقدير: ? وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ? تَدْخُلْ غَيْرَ بيضاء، وأَخْرِجْهَا ? تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ?، فدلَّ لفظ "بيضاء" في الأواخر على عبارة "غير بيضاء" المحذوفة من الأوائل، ودلَّتْ عبارة: "وَأَدْخِلْ" في الأوائل على عبارة "وأخرِجها" المحذوفة من الأواخر، فتمَّ الاحتباك.
ب - مثالٌ شِعريٌّ من "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" لابن هشام، تحقيق يوسف الشيخ محمد البقاعي:
كَمْ عَمَّةٍ لَكَ يَا جَرِيرُ وَخَالَةٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَيَّ عِشَارِي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
... " فَدْعاء" صفة لـ "خالة" و"لعمَّة" مجرورًا؛ أو منصوب لِمَا ذكَرْنا، ولها صفةٌ أخرى مُماثلة لصفة "عمة" المذكورة معها؛ والتقدير: كم عمَّة لك فدعاء، وخالة لك فدعاء؛ فحذف من كلِّ واحد مِثلَ ما أثبت في الآخر؛ وهذا ما يُسَمَّى في علم البديعِ: الاحتِباك.
جـ - مثال نثريٌّ من "نَزْع الخافض في الدَّرس النحوي" للأستاذ حسين بن علوي بن سالم الحبشي:
هـ - قول العرب: "راكبُ الناقةِ طليحان"، لا يطابق الخبَرُ فيه المبتدأ؛ لذا خرَّجه النَّحويُّون على أوجهٍ:
• تقدير مضاف في موقع الخبَر قام المضافُ إليه مقامه، والتقدير: راكبُ الناقة أحدُ طليحين.
• تقدير معطوف على المبتدأ؛ أيْ: راكب الناقة والناقة طليحان، وهو الأظهر؛ اكتفاءً بذكر الناقة عن أن يذكرها مرة ثانية.
أنَّه من باب الاحتباك؛ وذلك بأن يُحذف من الأول ما أُثبِت نظيرُه في الثاني، ومن الثاني ما أُثبِت نظيره في الأول، والتقدير: راكب الناقة طليح، وهما طليحان، وفيه حذفٌ كثير، وتقليل المقدَّر ما أمكَن أولَى.
[1] (http://forum.ashefaa.com/#_ftnref1) " التحبير" للسيوطي: 128 - 129، ط دار الكتب العلمية: 1408 - بيروت.
وانظر معه: "طراز الحلة وشفاء الغلَّة" لأبي جعفر الرعيني الغرناطي، ص: 508، ت: رجاء السيد الجوهري، مؤسَّسة الثقافة الجامعية - الإسكندرية، وانظر "البرهان" للزركشي: 3/ 129، و"الإتقان" للسيوطي: 3/ 182، "شرح عقود الجمان" 133.
http://www.ahlalloghah.com/images/misc/progress.gif
ـ[محمد بن إبراهيم]ــــــــ[14 - 03 - 2011, 04:25 م]ـ
جزاكم الله خيرًا.
ومن ذلك أيضًا قول أبي صخرٍ الهذليّ:
وإني لتعروني لذكراك هِزَّةٌ * كما انتفضَ العصفورُ بلَّلَهُ القطرُ
والتقدير: وإني لتعروني لذكراك هزة وانتفاضٌ، كما انتفض العصفور واهتزّ.
[ذكره السجاعي في حاشيته على القطر عن السيوطي، وقال: إنه ذكره في شرح بديعيته]
1 - "التعريفات" للجرجانِي:
38 - الاحتِباك هو أن يَجتمع في الكلام متقابِلان، ويُحذف من كلِّ واحدٍ منهما مُقابِلُه؛ لدلالة الآخَر عليه، كقوله:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءًا بَارِدَا http://www.alukah.net/images/alukah30/space.gif
أي علفتها تبنًا، وسقيتُها ماء باردًا. لا يظهر لي أنّ في هذا الشاهد احتباكًا، لأن الحذف هنا من مكان واحدٍ، وإنما هو من باب (عطف عامل حذف وبقي معموله على عامل آخر مذكور يجمعهما معنًى واحدٌ) [المغني]، ومنه قول الراعي:
إذا ما الغانياتُ برزنَ يومًا ** وزججن الحواجب والعيونا
أي: وكحلن العيونا
وقول الآخر:
يا ليتَ زوجكِ قد غدا ** متقلدًا سيفًا ورمحا
يريد: وحاملا رمحًا.
¥