ملتقي اهل اللغه (صفحة 2526)

من آليات الانسجام الصوتي في القرآن الكريم: التقديم والتأخير

ـ[د. خديجة إيكر]ــــــــ[16 - 10 - 2011, 09:34 م]ـ

يطلق مصطلح الرتبة في النحو على الموقع الأصلي الذي يجب أن يأخذه اللفظ داخل الجملة بالنسبة للألفاظ الأخرى المرتبطة به بعلائق نحوية تركيبية. فالأصل في الجملة الفعلية في اللغة العربية مثلا: فعل وفاعل ثم مفعول، والأصل في الجملة الاسمية: مبتدأ ثم خبر ... وهكذا، حيث تلعب الرتبة دورا أساسا في تحديد الوظائف النحوية في اللغة العربية.

غير أن هناك استثناءاتٍ تخرج فيها هذه الرتبة عن الأصل الموقعي إذا كان هناك ما هو أولى من احترام الرتبة. وبتعبير آخر هناك عوامل تؤثر في البعد الموقعي للفظ، فتكون سببا في الخروج عن الأصل، إذ تتسم القواعد النحوية العربية بالمرونة، ولولا مرونتها لجمدت تراكيبها ولكانت اللغة على وتيرة واحدة ولانْتَفَت الإبداعية في اللغة، وهذا أحد أسباب موت الكثير من اللغات وصمود اللغة العربية وإعجازها الذي استمدته من إعجاز القرآن الكريم الذي نزل بها.

لكن تجاوز القواعد الأصلية للألفاظ - فيما يتعلق برتبة كل واحد منها – ليس متروكا لمستعمل اللغة يطبقه بشكل فوضوي بل إنه ينضبط بقواعد وضعها النحاة في منع أو إجازة تقديم وظيفة نحوية على أخرى:

- كمنعهم مثلا تقديم خبر إن وأخواتها على اسمها فقولنا: (إنَّ صالحٌ عمرواً) لاحن وخارج عن القواعد العربية.

- وكمنع النحاة أيضا تقديم الحال على عاملها إلا إذا كان فعلا متصرفا: فجملة (قائماً هذا زيدٌ) غير مقبولة كذلك في للنسق العربي.

- وكعدم إجازتهم التصرف في الجملة التعجبية بتقديم أو تأخير لأن فعل التعجب غير متصرف ولا يصاغ منه مضارع ولا أمر .... إلى غير ذلك من الأمور التي قَعَّد لها النحاة في مسألة التقديم والتأخير.

وتعتبر ظاهرة التقديم والتأخير من الوسائل التي وظَّفها القرآن الكريم لتحقيق توازنه الصوتي بشكل جَعَله متماسكا من الناحية الصوتية الإيقاعية. حيث يتبين لنا من خلال استقصائنا للعلاقة الموجودة بين ظاهرة التقديم والتأخير وبين التوازن الصوتي القرآني أن مراعاة الفاصلة القرآنية من أهم العوامل التي يُفَسَّرُ بها عدولُ القرآن الكريم عن الرتبة الأصلية في اللغة العربية:

وسنُمَثِّل ببعض الآيات القرآنية التي وُظِّفت فيها آليةُ التقديم والتأخير مراعاة للفاصلة:

* قال عز وجل ((واجعلنا للمتقين إماما)) الفرقان 74، حيث أُخِّر ما حَقُّهُ التقديم وهو لفظ "إماما" الفاعلُ في المعنى أو المفعولُ الثاني لفعل "اجعلنا" حفاظا على فاصلة الألف الممدودة التي تطبع سورة الفرقان.

* وقال تعالى أيضا ((إن كنتم للرؤيا تعبرون)) يوسف43، حيث قُدِّم المعمول "الرؤيا " على العامل " تعبرون " مراعاة لفاصلة النون الساكنة التي سارت عليها السورة كلها تقريبا.

* وقال تعالى ((والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى)) الأعلى 4،فمعنى "أحوى " هو الأسْود من شدة الاخضرار، أما "الغثاء " فهو مايحمله السيل من أوراق الشجر اليابسة. حيث أُخر ما حقه التقديم وهو اخضرار النبات، بينما قُدم ما حقه التأخير وهو اصفرار النبات ويُبْسُه. ويكون بذلك لفظ (أحوى) مؤخرا معناه التقديم.

هذه بعض الأمثلة من ظاهرة التقديم والتأخير في القرآن الكريم كإحدى الآليات التي استخدمها ليخلق تلاؤما وتناسقا وتوزيعا صوتيا محددا يناسب الحدث ويبلِّغ مضمون الرسالة ويُحدث التأثير المقصود في مُتلَقِّي القرآن الكريم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015